حسّ عميق بوجدان مصر وفقرائها
كتب حازم خالد من القاهرة: التكريم هو تحريض صريح على التميز، وتحفيز إيجابي على التفوق. دعوة صادقة لمواصلة الجهد واستمرار العطاء، وبالتالي يعد التكريم ضرورة مجتمعية تحوي الكثير من المعاني النبيلة، وتؤكد في الوقت ذاته على قيم الوفاء وتعكس دينامية المجتمع وحيويته، فالمجتمعات والشعوب يقاس مدى تحضرها بما تقدمه من إبداعات تساهم في رقي الإنسانية وازدهارها ورفعتها.
إيماناً بأهمية التكريم، لاسيما تكريم المبدعين والمفكرين الذين كان ولا يزال لهم دور رائع في مسارات الفكر الإنساني، جاءت فكرة هذا الكتاب «يوسف القعيد … سبعون عاماً من العشق للأرض والإنسان» للكاتب السعداوي الكافوري الصادر لدى الهيئة العامة لقصور الثقافة، كمحاولة لإلقاء مزيد من الضوء حول المشوار الفكري والإبداعي للكاتب يوسف القعيد.
كلمة الفن تعني ، بداهة تلك الفنون المشاهدة من مرئيات الفنون، من فنون تشكلية أي تلك المنسوبة إلى الشكل. غير أنه بالتدقيق في ثنايا هذه الكلمة ودلالاتها نجد انها تمتد لتشمل الأدب والموسيقى. ففيما ترتبط الفنون برابط محاكاة الواقع ينتقي الشاعر كلماته من مداولات المجتمع من مفردات المعايشة، وكذلك يفعل الأديب ولا يوجد فرع من الفنون ذو وضع خاص الا الموسيقى التي لها وضع خاص، فالموسيقي وحده له عالمه الخاص يوقع من خلاله نوطة، فيما يغمس الأديب ريشة قلمه في محبرة المجتمع ليخرج من مبسمه ما يعايش الناس من الآلام والمعاناة. ومع أن الأدب في حد ذاته موقع من حس الفنان فهو خليط بين نقل المشاهد وإيقاع التلقائية المنفتح على عالم الأديب الخاص، فمن هذه الخصوصية تتشكل صفحة التميز بين أديب وآخر، إذ تكتب صفحة الأديب من وعيه الخاص ويتسابق الأدباء في مضمار الإمتاع، فللأديب معبد قدسي تحرسه جنيات الفن، ومن أطال المكوث من أهل الأدب بين حانات دنانه كان أظفرهم بانتقاء روائعه. هكذا يتخلق نسج الرواية، ويختلط مفهوم الفن مع معنى الجمال. ومن عملية الخلط بين الجمال ومفهوم الفن تتقاطر المشاعر المنقولة عبر المبدع، ويحس المتلقي بالمتعة عندما يحسن حسه الواعي التقاط النسبة والتناسب بين عناصر الجمال سواء كانت لوحة فنان فيكون نسبة التناسق بين إبعاد ما برز منها على سطح اللوحة، أو قصيدة في تلاحظ التناسق بين رنين الألفاظ وموسيقى الوزن ودقة المعاني المنسابة بين حنايا تكاملات القصيدة.
تكمن عناصر المتعة من نسبة وتناسب في القطعة الموسيقية في لفافات الهرموني، وكذلك يقع المقصد من خليط المفهوم للفن ومعالم الجمال على مضامين الرواية فيتذوق المتلقي المتعة، وإذا انعدم التناسق ونسبه في منتج تشكيلي أو من لوحة أو قصيدة أو رواية تبين في الخلل القبح. كثر يسودون صفحات الكتب وقليل هم المبدعون.
بين هؤلاء الروائيين المبدعيين الروائي يوسف القعيد، أحد أرباب القلم، فحين فاض قلبه بحب المتعبين من الكادحين في حقول القمح وبين أرصفة المواني والعمال المسحوقين بين مستودع فرن ومسار قطار، ولما رأى محاولات كسر الكبرياء بالعدوان على كرامة الأمة في منتصف الستينات، انبرى دفاعاً عن شرف الأمة، فخاض الحروب تلو الحروب من 67 وحتى 73. وخاض حرب الاستنزاف تلك التي وضعت الانتصار في أفق حرب أكتوبر من عام 73. ظل تحت ظلال السيوف يدافع وينافح بين قلم وقرطاس بظفر وناب، ولما وضعت الحرب أوزارها، حمل هموم البلد بين أضلعه إلى دفات الكتب ودس همومه والالم، وانطلق ينثر درر الفكر بعد روائع الأدب فهو يعتبر واحداً من أهم كتاب الرواية في العالم العربي.
قدم القعيد إلى المكتبة العربية أكثر من عشرين عملاً روائياً بينها: «الحداد»، «أخبار عزبة المنيسي»، «أيام الجفاف»، «البيات الشتوي»، «يحدث الآن في مصر»، «الحرب في بر مصر»، «شكاوى المصري الفصيح»، «في الأسبوع سبعة أيام»، «وجع البعاد»، «أربع وعشرون ساعة فقط» وغيرها من أعمال روائية، تعكس في مجملها ارتباطاً عميقاً بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبسطاء والمهمشين والتزاماً نبيلاً بقضاياهم ومشاكلهم، من خلال لغة شاعرية مترعة بالشجن وأسلوب رشيق أخاذ وتناول مثير للدهشة.
إلى اهتمام الأديب يوسف القعيد بالفن الروائي، يكتب القصة القصيرة أيضاً، وصدر له أكثر من سبع مجموعات قصصية منها «طرح البحر»، «تجفيف الدموع»، «الفلاحون يصعدون إلى السماء».
ترجمت أعمال القعيد، سواء كانت روايات أو قصصاً قصيرة إلى العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والصينية والروسية. وبالإضافة إلى الإنتاج الأدبي والإبداعي ليوسف القعيد فإنه أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب الفكرية المهمة مثل «مفاكهة الخلان في رحلة اليابان» و«الكتاب الأحمر» فضلاً عن مقالاته في العديد من كبريات الصحف المصرية والعربية.
ولد الكاتب الروائي يوسف القعيد في 2 نيسان 1944 في قرية الضهرية مركز ايتاي البارود، محافظة البحيرة، لأسرة تعمل في الزراعة، وألحقه أبوه بكُتاب القرية ثم مدرسة عسران عبدالكريم الابتدائية، ثم مدرسة أنصاري سمك الإعدادية، فمعهد المعلمين في دمنهور الذي تخرج فيه عام 1961. والتحق بمهنة التدريس اعتباراً من عام 1961 في مدرسة الرزيمات الابتدائية المشتركة التابعة لإدارة حوش عيسى التعليمية، ثم انتقل إلى مدرسة الوحدة المجمعة في قرية الضهرية ايتاي البارود، ثم جُنِّد في القوات المسلحة في كانون الأول 1965 وظل بها حتى نيسان 1974 وشارك في حروب حزيران 1967 وحرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول 1973.
ثم عمل في الصحافة وعمل محرراً أدبياً في مجلة «المصور» وتدرج فيها حتى صار نائب رئيس تحرير مجلة «المصور»، وذلك منذ عام 1974 حتى عام 2000، حين قرر أن يصبح كاتباً مستقلاً عن المؤسسات، عامة أو خاصة.
في رواياته تجارب أساسية كتب عنها في نصوصه الأدبية، وتشكل عالم الرواية لدى القعيد عبر مجموعة من الرؤى اختطها لنفسه بوعي وتفهم من خلال معايشته الكاملة للقرية المصرية باعتباره أحد أبنائها المخلصين الذين عاشوا أيامها الصعبة ورضعوا آلامها المُرة، وأيضاً من خلال مواجهته واقع الهزيمة وإرهاصاتها الملحة التي دخلت كل بيت في مصر والتي تأثرت بها القرية المصرية تأثراً بالغاً، ووضحت آثارها على جيل كامل من أهلها، وكانت بواكير الرواية لدى يوسف القعيد تعبيراً عن مكونات الزمان والمكان خلال فترة من أهم فترات حياته هي فترة تجنيده وخروجه من قرية «الضهرية» وولوجه عالم المدينة مجنداً في صفوف القوات المسلحة عام 1965، وكذا تشكيل وعيه الأدبي من المخزون الثقافي التراثي والمعاصر من خلال قراءات ذكية وملحة في الأدب القصصي المحلي والعالمي. ولعبت هذه القراءات دوراً مهماً في تشكيل رؤية القعيد.
تكشف السيرة الذاتية للقعيد عن ثراء في الإنتاج وكثافة في العمل، إذ أمضى في القوات المسلحة تسع سنوات من أهم السنوات في تاريخ مصر المعاصر وشارك في حروب ثلاثة من أهم الحروب التي خاضتها مصر وهي هزيمة 1967 ثم حرب الاستنزاف المسكوت عن بطولاتها ثم حرب أكتوبر. وكتب وهو مجند في القوات المسلحة خمسة أعمال امتزجت بخبرة تلك الأيام الصعبة التي عاشتها مصر.
القراءة النصية لعناوين ما أبدع يوسف القعيد تكشف عن حس عميق بوجدان مصر والمصريين لم يفارق روايته، وكان شديد الالتصاق بقريته ومصريته، معبّراً عن الأحزان وكاتباً عن الفقراء وعن القلوب البيضاء، وبلد المحبوب، لعل ذلك كله جعل القعيد يحتل مكانة ليس في عالم الأدب فحسب بل ولكن في عوالم أخرى إذ ترجمت معظم أعماله إلى لغات أجنبية.
في عالم آخر كان القعيد متربعاً في اهتمام المشتغلين في الأدب إذ كان موضوعاً لعشر رسائل جامعية تناولت رواياته منذ أبعاد مختلفة سياسية واجتماعية وأدبية وحينما ذكرنا أن القعيد كان معبراً عن وجدان مجتمعه لمسنا ذلك في اهتمام عديد من الباحثين الذين تناولوا سوسيولوجيا الكتابة والدراسة السوسيونصية والبعد الاجتماعي وغير ذلك مما حفلت به رواياته.