الميدان… ذاكرة الدمشقيين وأصالة تاريخهم

لورا محمود

يحمل ماضي دمشق وعبق ياسمينها الشامي، وجوهر أهاليها المتمسكين بالأرض والأخلاق، أصالة الشاميين بعاداتهم ونخوتهم وتكافلهم الاجتماعي. فعندما نتحدّث عن تاريخ دمشق وتراثها العريق، علينا التوجه إلى «حيّ الميدان».

«حيّ الميدان»، واحد من أكبر الأحياء القديمة والعريقة في دمشق من جهتها الجنوبية، والذكر الأقدم له ورد في العهد الفاطمي.

سمّي بـ«حي الميدان» لأنه كان ميداناً رحباً واسعاً، تُقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية. ولم يكن مقتصراً على هذه السباقات فقط، إنما كانت تنزل فيه مواكب الأمراء والوفود والجيوش والقوافل.

ولقد كان اسم الميدان قديماً لدى مؤرّخي القرون الوسطى يقترن بتسمية: «ميدان الحصى»، وكانت هذه التسمية مختصّة بالمحلّة المحاذية لجامع «باب المصلّى»، وعُرفت أيضاً بالـ«الميدان التحتاني». ثم شاع اسم «ميدان الحصى» ليشمل الضاحية برمّتها. وسبب تسميته بذلك كما هو واضح، عائد إلى تربته اللحقيّة المفروشة بالحصى.

ولم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعليّ حتى عهد الدولة المملوكية، فقبل هذا العهد كانت المدينة تقوم ضمن السّور، ولم يكن خارجها ضواح كثيفة العمران بالمعنى الحقيقي، إنما مجرّد قرى وتجمّعات سكنية منفردة، لا تشكّل كثافة سكانية. ويعود ذلك إلى قلّة عدد سكان المدينة من جهة، وانعدام الأمن والاستقرار خارج الأسوار من جهة أخرى بسبب الحروب الصليبية.

في العهد المملوكي، بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج الأسوار، فمنها السويقات خارج أبواب المدينة كالسويقة المحروقة وسويقة صاروجا، عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة. ومنها أيضاً ضاحية الميدان التي بدأ العمران فيها، فظهرت فيها المساجد وبعض المدارس.

وما زال عدد كبير من هذه الآثار العمرانية موجوداً حتّى أيامنا هذه، ومنها: جامع منجك، المدرسة القُنشليّة، الزاوية السعديّة، تربة أراق السِّلَحدار، وعدد من التُرَب المملوكية الأخرى.

ومن آثار العهد العثماني في الميدان: جامع مراد باشا من أواخر القرن السادس عشر الميلادي. وحمام فتحي من القرن الثامن عشر الميلادي. ولكن للأسف، هُدِم عدد كبير من هذه الدور الجميلة أواخر السبعينات من القرن الماضي، عندما شُقّ طريق المتحلق الجنوبي، فقد كان من أجملها دار الموصلي ودار البيطار.

وقبل العهد المملوكي، كانت حماية حي الميدان موكلة إلى جماعة من شبّان الحي عُرفوا بلقب «الأحداث»، أي الفتيان، وكانوا النواة الحقيقية للمقاومة الشعبية ضد الغزاة الصليبيين والتتار، اتصفوا بالجرأة والصلابة وكانت لهم تنظيمات شبه صوفية تقوم على مبدأ «الفتوة» بما تحمله من معاني والفداء والاستماتة في الدفاع عن الوطن والعرض.

وأثناء الاحتلال الفرنسي لسورية 1920-1946 ، حارب أهل الميدان إلى جانب الأحياء الدمشقة الأخرى قوى الاحتلال. حتى أن الفرنسيين قصفوا الميدان مراراً، وأكثرها شراسة ما حدث في العشرينات أثناء الثورة السورية الكبرى.

أقسام الحيّ

في أواخر العهد العثماني، قُسّمت المدينة إدارياً إلى ثمانية أثمان، فكان ثُمنان منها يشملان حيّي «الميدان التحتاني» و«الميدان الوسطاني»، ثمّ «الميدان الفوقاني»، ويشقّها طريق الحج المعروف باسم «الدرب السلطاني».

ففي« الميدان التحتاني» يقع جامع النارنج وجامع صُهيب، وجامع الزاوية، ومدرسة الخانكيّة، ومدرستان أميريّتان للبنين والبنات. وفيه حمّام الزين، وحمّام السّويقة، وحمّام النّاصري، وكنيسة للروم الأرثوذوكس بِاسم القديس حنانيا، وكنيستان للروم الكاثوليك، ومدرسة لكل من هاتين الكنيستين.

وفي «الميدان التحتاني» تُباع الحبوب بأنواعها، في حوانيت فسيحة تُسمّى «بَوايك»، وفيه مصانع متعدّدة لأعمال مختلفة ومعامل للنسيج والحياكة.

أما «الميدان الفوقاني» فيقع في منتهى المدينة من جهة الجنوب، ويمتد من سوق الجزماتية إلى بوابة الله باب مصر . ويضم من الأحياء والمحال: سوق الجزماتية، الحقلة، ساحة عصفور، ساحة بحصيص، وزقاق البرج، وزقاق أبي حبل، والمشارقة، والنصار، وزقاق قيصر. وفيه جامع الدقاق، ومسجد العسالي، ثم الحمّام الجديد، وحمّام الدّرب، ومعمل السكة الحديدة الحجازية ومحطة سكة حديد بيروت وتمديداتها، والثكنة العزيزية.

حلوى رمضان

يعتبر الدمشقيون ومعهم أبناء المدن السورية أن الحلويات من أهمّ مفردات العيد ومستلزمات الضيافة. في الماضي، كانت تقسم صناعة الحلويات في دمشق بحسب المنطقة، ومنذ ما يقارب عشرين سنة، بدأ الميدان يحتلُّ المركز الأساس للحلويات. ومع ظهور عائلات جديدة في هذه الصناعة عملت على تطويرها وتوسيعها، وتطوّرت صناعة الحلويات الدمشقية التي كان عددها لا يتجاوز أصابع اليدين في بدايات القرن الماضي لتبلغ 200 حالياً، ونتج عن تنوّعها تصنيفات جديدة على أساس المناسبات والفصول والأسعار. فمنها ما هو شتوي ومنها الصيفي، وما هو خاص برمضان.

تذكر الدراسات أن ولع السوريين بالحلويات، خصوصاً في رمضان والأعياد جعلهم من أكثر مستهلكي الحلويات في العالم ليصبحوا في المقابل أحد أهمّ مصنّعي الحلويات الشرقية في العالم. فهم يقدّمون الحلويات ويتباهون بنوعيّتها عالية الجودة. ومصنّعوها من مشاهير «الحلونجية» الدمشقيين. وسوق الميدان يصدّر حلويات دمشقية عريقة تفخر بها الأسواق العربية والعالمية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى