التشكيليّة العراقية نادية فليح… الرسم بألوان الرماد!
ماجد صالح السامرائي
حين أمعنت الفنانة نادية فليح التأمل في واقعها العراقي الذي تعيشه اليوم، لم تجد ما هو تعبير جامع عنه أكثر من «شجر النخيل»، رمزاً ذا دلالة على تاريخ يعقد الصلة بين الإنسان والأرض.
إلّا أنها وقد قصدت مواقعها، لم تجد منها سوى «رماد الاحتراق». إذ التهمتها نار الحرب المشتعلة فيها من سنين، كما اشتعلت بأرض العراق كلّه. فوقفت أمامها، واستلّت ألوانها مما خلّفت نار الاحتراق من رماد، لترسم «المأساة العراقية»، من خلال هذا «الرمز الشامل» الذي يعمّ واقع الحياة وجوداً، ويُعبّر عنه حالة واقعة.
كان هذا ما قدّمته الفنانة نادية في معرضها في قاعة حوار في بغداد ، وفي مشاركاتها الأخيرة في معارض مشتركة أقيمت في بغداد، آخرها المعرض الذي أقيم في قاعة «جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين»، مستعيدة الصورة ـ المأساة متمثلة بتلك «الجذوع الخاوية» التي أحرقت أصولها نار حرب استباح بها المحتل الأميركي حياة إنسان البلد ومقدراته، ملقياً بكل شيء إلى ما أشعل من نار.
فقدّمت صورة تحمل رمزاً كثيف الدلالة على ما حصل فأحال كل شيء في الواقع «جذوعاً خاوية» راحت هذه الفنانة تتقصى آثارها ببراعة فنية عالية، جسدتها من خلال رؤية وموقف: فإن كانت الرؤية قد تشكلت من مفردات اتخذت رمزها الشامل، والكليّ، من النخلة، فإن هذا الرمز، بتداعياته على ذات الفنانة، أصبح رمزاً نامٍياً بالدمار الذي حصل ـ وهنا المفارقة. فالنخلة هنا ليست شجرة قائمة بكيانها، وإنما هي نتاج حالة احتراق أصابت كل شيء فحولته من «كيان أخضر» يتداعى على الواقع بما يحمل من ثمر طريّ إلى «جذع أسود» يتفتت متداعياً على الأرض بالرماد ليغطيها بلونه. وهنا يتحقق الموقف الذي تتخذه الفنانة إزاء عملية التدمير الشامل لحياة تحولت بفعله «جذوعاً خاوية».
ويكون لهذه الرؤية وقعها القاسي والمرير، على ذات الفنانة. فالنخلة، وقد استحالت الى الصورة التي أصبحت عليها في عملها الفني، إنما هي «صورة استعارية» لما حدث للوطن جراء ما أصابه من حرائق ما تزال مستمرة، تندلع في كل حين، لتطال كل شيء. فهي تُصدر، في ما قدّمت من أعمال، عن حزن عميق تجسده كثافة «الصورة» بما حملت من تمثيلات هذا الواقع: من الدمار الذي أصابه، إلى الخراب الذي انتهى إليه، متخذة من اللون الأسود لوناً وحيداً، يستوعب/ ويُعبّر عن كثافة الحساسية لدى الفنانة في تعبيرها عن ذلك. فإذا كانت «الجذوع الخاوية»، في بعض أعمالها، قائمة بما بقي لها من «جذور ميتة»، فإن «رماد الاحتراق» الذي تناثر، في أعمال أخرى، وبأشكال وصور تعبيرية مختلفة عبرت عما للأثر من انعكاسات نفسية على الفنانة. وفي الحالتين نجدها تعمد إلى بلورة فكرتها بما لها من جوهر يتمثل في صيغة: رسالة، ومُرسل، ومُرسَل إليه. والكل على أرضية واقع واحد.
غير أن «الرسالة» التي تبعث بها الفنانة لا تُقدّم لـ«المرسل إليه»، أو المتلقي، أفكاراً في صورة رؤى، فحسب، إنما تقدمها في عمل فنيّ مميّز، إن جاء في جانب منه متمسكاً بـ«الشكل»، فإن الجانب الآخر جاء في صيغة رؤية فنية تستلهم الواقع بما يتعيّن به وقد طالته الحرائق. فهي كمن يريد خلق إحساس تحركه الرؤية الفنية، من خلال التأمل في ما حصل على الأرض/ وفي الأرض من دمار وتدمير كانت لهما مثل هذه النتائج الكارثية التي تمثلها أعمالها. هذا كله يأتي بتقنية عالية تجمع بين «الفكرة» و«الرؤية». بين «ما حدث» و«نتائجه»، أو «إسقاطاته». فنحن، هنا، أمام عملية خلق فني يتصل فيه الوجود بالمصير لتتشكل اللوحة من عالم هو في حالة تشخيص وتعيّن. فهي تضع أمامنا صورة وجود، وتمنح هذا الوجود بُعده الواقعي، وإن لم يسلك في تعيّنه هذا سبيل «الواقعية»، ولا اتخذها نهجاً فنياً في التمثّل والتعبير، إنما نجدها تجمع في لوحتها بين «الرؤية الكابوسية» واستجابة العالم الداخلي لها، بما يجعل من «موضوعها» عملية خلق متصل بما للواقع الذي تتمثّل من حقيقة حيّة، بما للفنانة من خصوصية الرؤية والتعبير.. فما اجتمع لها من رؤية فنية تقوم على معادلة ثنائية: رؤية بصرية لما حدث، ورؤية تشكيلية تُجسد نتائجه.
ففي الحالة الأولى هناك التلقي الذاتي ـ بكل ما له من وقع قاسٍ على الذات المتلقية. وفي الثانية هناك انعكاسات هذا التلقي، لنجد العناصر التي اجتمعت في الرؤية البصرية للفنانة تساعد في بلورة الرؤية الفنية وتُكثفها، وصولاً الى الأسلوب الذي سيميّز أداءها الفني، بما يحقق لـ«خطابها الفني» حركة تواصل مع المتلقي. وأدعوه «خطاباً» لما يحمل من «لغة» تتقصد «الإبلاغ»، ولها ما تبلّغه.
غير أن السؤال الذي يُثار هنا هو: هل أرادت الفنانة بعملها هذا، في ما اجتمع لها من أعمال تنتظم، رؤية، في هذا السياق، وشّحها السواد وتناثر الرماد على أطرافها، القول: إنّ الاحتلال، وما جرّه أتباعه على بلدها، إنساناً وأرضاً، لم يُبقِ لنا/ لها من الطبيعة ما ترسمه سوى هذه «الجذوع الخاوية» بفعل إحراقها بنار الغازي وأعوانه؟
هذا ما قالته، لذلك جرّدت الطبيعة المحيطة بالشكل/الموضوع في عملها من كل شيء إلا من الرماد وبقايا ما احترق، جاعلة من الدمار مصدراً للخلق والإبداع الفني. أما أسلوباً، فهي وإن دارت في مدار الموضوع الواقعي، فإن التجريدية ـ التعبيرية أخذت أبعادها في بعض أعمالها. إن تحويلها تلك «الطبيعة المحترقة» إلى لوحة/عمل فني، مهتمة بتفاصيل المشهد الدال على فداحة المشهد، سواء على أرض الواقع أو عند تحويله الى اللوحة/العمل، نجدها تحوّل «النتائج» الرماد ودخان ما احترق إلى رموز قائمة في فضاء مدمَّر هو كل ما تبقى من «شيء» كان، قبل ذلك، عالماً له معماره ـ الطبيعة الحيّة.
ونجدها تجتهد رؤية في تكوين تلك المشاهد التي ترسمها بمطابقة لرؤيتها ـ التي هي رؤية لا تخرج من حدود الواقع الذي غدا، في عملها هذا ، «واقعاً مجازياً»، امتزجت فيه بقايا الشكل بألوان بصرية تحولت إلى رؤية فنية مثقلة بتداعيات واقع منهار، محققة بذلك ضرباً من ضروب الأسلوبية في العمل الفني: تقترب من الواقع بمقدار ما تجد فيه من تمثيل طبيعي للحالة، يصل بها إلى المقاربة والمشابهة مما حدث، و»تقوله»، فتواجه بتحدي التعبير تحدي ما حدث ووقع.
أما «رموزها» الدالة على ذلك، الجامعة لمضامينه، فتقع بين اللونين الأسود والرمادي وبين «الشكل» الذي يجسد حالة الانهيار. فهل يمكن أن نصف عمل هذه الفنانة بـ«الرسم ـ الطقس»؟ ولكنه طقس عزاء وحزن في أرض ليست بعيدة منّا، وقريبة، القرب كله، من ذات الفنانة.
٭ كاتب وناقد عراقي