عالم جديد وحزمة تفاهمات: ليس مجرّد تفاهم نووي
ناصر قنديل
– يخطئ الذين ينظّرون ويقيّمون ويقارنون ويستنتجون، ما يتصل بالملف النووي الإيراني بصفته ملفاً تفاوضياً يحتمل النجاح والفشل، فينتظرون الأخبار وما تحمله من نوبات تفاؤل وتشاؤم. فالملف هو جزء من حزمة ملفات تحكمها معادلة واحدة وينتظرها مصير واحد ويمكن أيّ مراقب يتمتع بقدر من القدرة على القراءة معرفة واستنتاج، حقيقة أنّ التفاهم النووي آتٍ مهما تمّ التأجيل والتمديد للمفاوضات، وأنّ العناوين الخلافية العالقة جديدة ولم تكن في أساس ما تمّت تسميته بالملف النووي الإيراني، بل بصفتها عناصر بروتوكول انضمام إيران إلى نادي الكبار، لأنّ المطروح على الطاولة ليس مفتعلاً للتصعيد ولا لتبرير التمديد ضمن مقتضيات ترويض الرأي العام وتهيئته لقبول التفاهم وحسب، بل لأنّ الخمسة الكبار صاروا ستة مع ألمانيا وصاروا سبعة مع إيران، ولذلك لا بدّ من وضع قواعد هذا النادي الجديد وشروط انضمام العضو الجديد، وهذا يفسّر طرح عناوين تفاوضية مثل قضية الصواريخ الباليستية وقضية البرامج المعلوماتية العالية الجودة والمعادن المعالجة صناعياً لزوم تطوير معامل الصلب والأنابيب، والمعادلات المصرفية الجديدة التي ستحكم علاقة إيران بالمصارف العالمية وقواعد التحويلات والتحقق من اتجاهاتها ومصادرها.
– التفاهم النووي الإيراني أشبه بحجر العقد في البناء الشرقي القديم، حيث يكون بين الحجارة التي يتكوّن منها المنزل «حجر مفتاح»، إذا سحب هذا الحجر من بين سائر حجارة العقد انهار البناء وليس العقد وحده، فالمراقب سينتبه إلى معنى أنّ العام 2015 يخلف أربع سنوات حرب متعدّدة الساحات والقوى من اليمن جنوباً حتى أوكرانيا شمالاً، ومن ليبيا غرباً حتى أفغانستان شرقاً، وأنّ هذه الحروب أنتجت معادلات وتوازنات تتخطى ساحاتها المحلية. فحرب اليمن هي حرب النفوذ السعودي، وحرب أوكرانيا هي حرب مكانة روسيا، وحرب لبنان الباردة هي إطار رسم أمن المقاومة، وحرب سورية هي حرب خريطة «الشرق الأوسط الجديد»، وحرب ليبيا هي حرب حجم حزب رجب أردوغان بعد انهيار حكم «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس وفشل حربهم في سورية واليمن وفشلهم في الانتخابات البرلمانية داخل تركيا، وأنّ العام 2015 شهد ولادة اتفاق إطار لبعض هذه الحروب ويشهد بعضها الآخر ولادة اتفاق إطار.
– الحرب السورية هي المفصل الحاسم في كلّ مشهد الحروب، فبسببها تأجّل التفاهم على الملف النووي الإيراني، وبانتظار نتائجها واختبار خياراتها جرى تمديد التفاوض مراراً، لأنّ مفاوضات بغداد في آب 2012 صاغت أسس التفاهم على الشق النووي من الملف، وهي مقايضة توقف إيران عن التخصيب العالي النسبة وامتناعها عن تخزين المخصب مقابل رفع الغرب للعقوبات عنها، وكلّ الحروب استمرّت من يومها لترضى إيران بالربط بين هذا التفاهم والتنازل في سورية، ولا يسلك الملف النووي طريق التفاهم اليوم إلا لأنّ كلّ شيء قد انتهى أو يشارف على النهاية، وما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكفي لوصف المشهد، بحديثه بعد محادثته مع الملك السعودي ولقائه بنجله وزير الدفاع، وإصراره على قوله بحضور وسائل الإعلام متوجهاً إلى وزير الخارجية السوري وليد المعلم، قائلاً: إنّ طريق ولادة حلف إقليمي يضمّ سورية والسعودية وتركيا لمحاربة الإرهاب باتت ممكنة، وإنّ خطر الإرهاب يتهدّد كلّ شيء وكلّ مكان، وإنّ مكانة سورية ورئيسها وجيشها في مواجهة هذا الإرهاب تجعل منهم حجر العقد في هذه الحرب، وأنّ العالم كله بات يسلم بذلك.
– السلسلة التي تسير بانتظام حلقة حلقة، تقول إنّ حزمة التفاهمات، على رغم استحالة إطفاء السخونة دفعة واحدة، تسير بالتتابع، تتعقد هنا وتنفرج هناك، تتصاعد هنا وتهدأ هناك، لكنها كلها تتهيأ لمسار لا يبدو أنّ أحداً قادر على وقفه، من تفاهم مينسك كاتفاق إطار حول أوكرانيا الذي يسلك طريق التقدّم على رغم كلّ المتاعب والمصاعب، مكرّساً مكانة روسيا، واتفاق إطار حول الملف النووي الإيراني يسلك طريق التحوّل إلى تفاهم نهائي، إلى اتفاق إطار اليمن يولد بالتدريج لينقل مرجعية الحوار من السعودية إلى الأمم المتحدة ومعها مكانه من الرياض إلى جنيف ومشاركة متوازنة للأطراف اليمنيين وهدنة تقوم على فك الحصار البحري والجوي السعودي بنقل مرجعية التفتيش إلى الأمم المتحدة، وعلى رغم صعوبة التجرّع السعودي للهزيمة فيكفي أن يتمّ سياسياً إعلان القبول ولو تمّ التعطيل في الميدان موقتاً، ومثله اتفاق إطار يعدّ المبعوث الأممي حول سورية ستيفان دي ميستورا لإطلاقه حول سورية بموافقة روسية أميركية، يتمحور حول اعتماد صناديق الاقتراع لتكوين السلطة وعنوان الحرب على الإرهاب للمشترك كأرضية للمصالحات، انطلاقاً من شرعية الرئيس السوري بشار الأسد ومحورية الجيش السوري في الحرب على الإرهاب، ومثل دي ميستورا يتحرك المبعوث الأممي لليمن والمبعوث الأممي لليبيا نحو بلورة اتفاق إطار لكلّ منهما، وفي أفغانستان يتحضّر العالم لتفاهم أميركي روسي إيراني صيني يمهّد الطريق نحو بناء سياسي يرعاه التفاهم الرباعي.
– ما يجري في فيينا بداية تأسيس لمعادلات ستحكم العالم لسنوات طوال، ومن سيقف في وجهها، ستدهسه الحافلة التي لن تتوقف من دون بلوغ محطة النهاية، يتذكر المراقبون مشهد نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وقواعد التوازنات التي ولدت حينها وحكمت العالم لربع قرن، من سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي إلى إطلاق عملية مدريد للسلام بين سورية و»إسرائيل»، وولادة اتفاقيتي «أوسلو» و»وادي عربة»، و»عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت وحرب يوغوسلافيا، ونهاية الحرب العراقية الإيرانية، وفي قلب كلّ ذلك ولادة اتفاق الطائف في لبنان، ومن يتابع ما يجري يكتشف بسهولة أنّ العالم الذي ولد يومها ينهار، وأنّ عالماً جديداً يستعدّ للولادة، وفي قلبه توازنات جديدة ولاعبون جدد، ومعادلات مختلفة تحكم علاقاتهم، وفي قلبها سيولد طائف أو «مسقط» جديد، وأنّ العماد ميشال عون في قلب هذا اللبنان الجديد ومن يقف في وجه ولادة هذا اللبنان الجديد يتبادل مع العماد عون الأدوار يوم وقف في وجه الطائف، وكان يقف في وجه معادلة عالم جديد، بحسابات لبنانية صرفة، ودفع الثمن غالياً.