رشيد كرامي نموذج القائد والإنسان المتمسّك بثوابته الوطنية والقوميّة
عبدالله خالد
«إنه زمن العار». بهذه الكلمات المختصرة والمعبّرة وصف أبناء طرابلس مهزلة ترشيح المدان سمير جعجع نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية. والواقع أنه حين فرضت دبابات العدو الصهيوني بشير الجميل رئيساً للجمهورية جاء بعض ضعفاء النفوس من أبناء طرابلس ليطلبوا إلى الرئيس رشيد كرامي ألّا يستمرّ في إغلاق الباب أمامه، حفاظاً على مصالحهم في الدولة والمجتمع. وكان الرئيس كرامي، المعروف بهدوئه واستيعابه لأكثر الأمور تعقيداً، يكتم غضبه من دون أن يتمكن من التستر على ملامح الانزعاج التي تظهر على وجهه، فهو ابن عائلة وطنية ومتديّنة اشتهرت بتمسّكها بعروبتها ومطالبتها الدائمة بالوحدة السورية كمدخل لتحقيق الوحدة العربية الكبرى من المحيط إلى الخليج. ومصدر انزعاجه معرفته أنّ بعض مناصريه سيدفعون غالياً ثمن التمسك بمواقفه المبدئية على الصعيدين الوطني والقومي التي لا يستطيع أن يساوم عليها أو يتخلى عن قناعاته إزاءها.
كان يتساءل: إلى متى يستمرّ هذا الكابوس؟ وكيف يمكن أن يقبل اللبنانيون رئيساً فرضه أعداء وطنهم وأمتهم عليهم لا يخفي علاقته بهم بعدما كشف النقاب عن أنه التقى قادتهم قبل انتخابه وبعده. وكان ينهي حديثه بالقول إنه يأمل في أن يكون الفرج قريباً والله كبير ولا أحد يعرف ماذا سيحصل غداً. كأنه بحدسه كان يتوقع أن يحدث أمر ما ينهي حالة غير طبيعية تهيمن على البلاد نتيجة الغزو الصهيوني. وبالفعل صدق توقعه واغتيل بشير الجميل.
شغل والد الرئيس كرامي عبدالحميد منصب الإفتاء وهو في مقتبل العمر خلفاً لوالده، وترأس إحدى جلسات المؤتمر السوري الذي عقد في دمشق للمطالبة بالوحدة السورية. وبوفاته شعر شقيقه مصطفى رئيس حزب الشباب الوطني بأنه الأجدر بخلافته، إلّا أن أبناء طرابلس اختاروا الشاب رشيد العائد حديثاً من القاهرة حيث نال إجازة في الحقوق ليصبح نائباً عن طرابلس، وبعد ذلك وزيراً.
قاد رشيد كرامي ثورة 1958 ضدّ حكم كميل شمعون الموالي للغرب، وحرص على تمثيل جميع الفعاليات الطرابلسية في القيادة. وبانتهاء الثورة واختيار فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية أصبح رئيساً للحكومة وعرف باعتدال مواقفه وتمسكه بوطنيته وعروبته من دون تطرف. وتميّز برفضه مشاريع الغرب الاستعمارية حلف بغداد، مشروع أيزنهاور… . ومع إقامة أول وحدة عربية معاصرة ضمّت مصر وسورية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة زار دمشق على رأس وفد طرابلسي كبير للترحيب بالرئيس جمال عبدالناصر، وأطلق من شرفة قصر الضيافة شعار «جئنا من وراء الحدود حيث لا حدود»، وبايع عبدالناصر قائداً لمسيرة العرب نحو التحرير والوحدة، وأصبح منذ ذلك الوقت صديقاً للرئيس عبد الناصر ومدافعاً عن سياسته الوطنية والقومية ومبشراً بأهمية وضرورة تحقيقها. وساند الخطوات الإصلاحية للنظام السياسي في لبنان، ودعَم تحقيق التوازن بين المناطق اللبنانية، ودافع عن بعثة إيرفد التي أجرت أول مسح شامل للبنان وطالبت بالاهتمام بالبعد الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كذلك دافع الرئيس كرامي بشراسة عن قضية فلسطين، وساند المقاومة الفلسطينية، ووقف في مواجهة الانعزال اللبناني الذي برز بأبشع صوره بعد انهيار الوحدة العربية بواسطة الانفصال الأسود، وهزيمة 5 حزيران 1967. وابتهج لاندلاع حرب تشرين التحريرية المجيدة باعتبارها الحرب العربية الأولى التي تصنع القاعدة الراسخة لإرساء دعائم خيار المقاومة.
كما أرسى مع الرئيس حافظ الأسد صداقة حقيقية تقوم على الاحترام المتبادل والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، دفعت الرئيس السوري إلى القول «إنّ رشيد كرامي يكاد يكون السياسي الوحيد الذي لم نكن في حاجة إلى أن نطلب منه شيئاً، فقد كان يبادر دائماً ومن دون تنسيق مسبق إلى إعلان المواقف الوطنية والقومية التي ترضي ضميره والتي تتوافق مع نهجنا السياسي».
مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان اتفق مع الرئيس سليمان فرنجية على بنود الوثيقة الدستورية التي وضعت أسس اتفاق الطائف، وكان يمكن – لولا تعنّت الأطراف المتنازعة – أن تجنّب لبنان الكثير من إزهاق الأرواح بالإضافة إلى الكثير من الخراب والدمار الذي أصابه.
بقي رشيد كرامي متمسّكاً بخيار الدولة، رافضاً العمل الميليشيوي الذي يكرّس الشرخ بين أبناء الوطن الواحد، مؤمناً بالحوار كوسيلة وحيدة لحلّ الخلافات بين المتنازعين، ومعتبراً أنّ مهمة الجيش الدفاع عن أرض الوطن وليس التحوّل إلى طرف في النزاع اللبناني، متبنياً وجهة نظر الرئيس شهاب في هذا المجال. ومن هذا المنطلق ساهم في تأسيس جبهة الخلاص الوطني وشارك في مؤتمريْ لوزان وجنيف لحلّ المعضلة اللبنانية وإرساء أسس الإصلاح في نظامه وتحويله من سلطة إلى دولة.
مع صول ياسر عرفات إلى طرابلس وسعيه إلى أن يكون طرفاً في النزاع اللبناني، انكفأ رشيد كرامي ورفض الدخول في لعبة تؤدي إلى تكريس التناقض بين اللبنانيين، وغادر إلى دمشق حيث بدأ مساعي حثيثة لإنهاء نزاع طائفي – مذهبي لا نزال نعاني تداعياته إلى اليوم. وبخروج عرفات من طرابلس عاد كرامي ليبدأ مسيرة تصفية القلوب ومسح الجروح، مردّداً أنّ الدولة هي الحلّ، وأنّ جيشها هو الأداة، فدفع حياته ثمناً لهذا الخيار حين اغتالته القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وهو على متن طائرة عسكرية تابعة للجيش اللبناني كانت تنقله من طرابلس إلى بيروت وأصبح شهيد تمسكه بخيار الدولة. وخرج سمير جعجع من السجن ليرشح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية، وهو المُدان بجريمة قتل رئيس وزراء لبنان…
في الأول من حزيران نتذكر الرئيس رشيد كرامي ونترحّم على روحه الطاهرة في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى قيادات توازيه في حسّ المسؤولية والقيادة الرشيدة الواعية.
عضو الأمانة العامة للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي