محطتان تاريخيّتان متناقضتان: هزيمة 1978 وانتصار 2000
د. مصطفى بزي
ما كان يحصل في المنطقة الجنوبية من تطورات عسكرية وميدانية على الأرض، منذ نهايات العام 1977، وتهديدات عدوانية صهيونية شبه يومية، وقصف عشوائي، وسقوط شهداء مدنيين وجرحى، وردّ فعل القوات المشتركة المؤلفة من الأحزاب الوطنية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية، وتصريحات القادة العسكريين والسياسيين «الإسرائيليين»… كان ينبئ كلّه ويشير إلى حدوث أمر ما في المنطقة، وتُوّج ذلك بتوجيه رئيس وزراء العدوّ آنذاك، إسحق رابين، تحذير شديد اللهجة لقوات الردع العربية في لبنان، «بعدم تجاوز الخط الأحمر في الجنوب، وهو خط حقيقي، جغرافي، وليس خطاً نظرياً وهمياً» اسحق رابين، يديعوت أحرونوت، مقال بتاريخ 1 تشرين أول 1977 .
بعد ذلك وجّه وزير الدفاع الصهيوني عيزرا وايزمان تهديدات إلى لبنان بضرورة القيام «بعمل سريع ومكثف» وقال: «إن «إسرائيل» ستقوم بعملية عسكرية كبيرة في جنوب لبنان، كي تضمن أن الحدود اللبنانية ستبقى هادئة» الصحف الصهيونية بتاريخ 7/11/1977 .
في التاسع من تشرين الثاني 1977، أعلن الكيان الصهيوني، على لسان وزير دفاعه نفسه، ورئيس أركانه مردخاي غور، «عن توقف العمل باتفاق وقف النار في جنوب لبنان» الصحف الصهيونية في 9/11/1977 .
وبالفعل ضرب الطيران الصهيوني يومذاك مواقع في الحزام الساحلي، الممتد على مسافة 20 كيلومتراً شمال الحدود، والذي يصل إلى جنوب مدينة صور الساحلية، وعلى عمق عشرة كيلومترات.
في الخامس عشر من شباط 1978 قصفت القوات الصهيونية بالمدفعية الثقيلة والدبابات منطقة القطاع الأوسط، خاصة بنت جبيل الحي القديم ، تلة مسعود، تلة شلعبون، صفّ الهوا، المشتى، وسقط جرحى، وردّت القوات المشتركة على النار بالمثل، واستمر الوضع على هذه الحال طوال الفترة الممتدة حتى آخر شباط 1978.
إن الأوضاع في المنطقة كانت تشير، على نحو واضح، إلى أن العدوّ الصهيوني سوف يقوم في أي لحظة بعدوان، من دون انتظار المبرّر، فالدولة العبرية ليست في حاجة إلى مبرر كي تنفّذ عدوانها، وإذا كان يلزمها ذلك فإنها قادرة على خلقه بنفسها، مثلما حدث في فترة لاحقة سنة 1982 وهنا يجب القول إنه ليس صحيحاً أن الاعتداءات الصهيونية كانت مرتبطة بالوجود الفلسطيني في المنطقة والاحتضان اليساري والشعبي له، والحوادث بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين وهذه الاعتداءات موثقة وواضحة.
في الثالث من آذار 1978، حدث تطور عسكري مهم في قطاع بنت جبيل تمثّل بقيام إحدى الوحدات الميليشياوية في المنطقة، بالتنسيق مع العدوّ ضمناً، ـ إنما من دون مشاركته العملانية والميدانية على الأرض ـ باحتلال بلدة مارون الراس الاستراتيجية والتي تطل على فلسطين المحتلة وتحتل أعلى نقطة في المنطقة.
كان لهذا السقوط الجديد أثر سلبي كبير في الأحزاب والمنظمات، وبدأ العمل الفعلي لاسترجاع مارون الراس بأي شكل من الأشكال، ونلاحظ هنا أن معظم الجبهات في المنطقة الحدودية كانت هادئة إلى حدّ ما، باستثناء هذه الجبهة. خططت القوات المشتركة مع المنظمات الفلسطينية وحركة أمل لاسترجاع مارون الراس، وبدأ التنفيذ في ظل قصف مدفعي عنيف، ويمكن القول إن القوات الصهيونية التي كانت تراقب الأمور عن كثب من مواقعها عند الحدود قرب قرية صلحا إحدى القرى السبع وعند مستعمرة «أفيفيم» تركت القوات الميليشياوية ـ ولسبب ما ـ لقدرها المشؤوم، حيث قتل عدد من أفرادها، وكأنّ العدو كان يريد ضمناً أن تصبح القوات المشتركة والمنظمات في موقع متقدم على تخوم الحدود معه وهذا في رأيه أي العدوّ يعطي المبرر كون القوات المشتركة والمنظمات تهدّد المستوطنات الصهيونية في الجليل. ويلاحظ أن الجيش الصهيوني المتمركز مقابل الأراضي اللبنانية لم يقدّم إلى الميليشيات سوى دعم مدفعي محدود، وغير مؤثر كثيراً في سير العملية العسكرية، ولذلك فإن المعركة حسمت بأسرع وقت وقُتل عدد من عملاء العدوّ وجُرح آخرون، ولوحق العملاء حتى آخر نقطة قريبة من الشريط الشائك، من دون أن تحرّك القوات الصهيونية ساكناً. إن الأيام التي فصلت هذا الحادث عن الاجتياح كانت حبلى بالحوادث، وشديدة التوتر، وتمثلت بقصف صهيوني مستمر وعنيف، ووجود زوارق معادية في البحر قبالة السواحل الجنوبية اللبنانية تعترض السفن والزوارق، وطيران حربي صهيوني يحلّق يومياً في سماء المنطقة وينفّذ غارات وهمية ويخرق أكثر من مرّة جدار الصوت.
الاجتياح
في هذه الأجواء الملبّدة جداً، حصلت الحادثة المشهورة، التي اعتبرت مثل الشرارة التي أشعلت الوضع، إذ حدث الهجوم الفلسطيني المباغت والمميز على الباص الصهيوني على طريق حيفا ـ «تل أبيب»، بقيادة المناضلة البطلة دلال المغربي في الحادي عشر من آذار 1978.
لم تكن العملية مبرراً للاجتياح، فالوقائع والوثائق أثبتت في ما بعد أن العدو الصهيوني كان يهيئ ويعدّ العدّة قبل تلك العملية بفترة طويلة، وعلى حدّ اعتراف وزير الدفاع الصهيوني وايزمان الذي قال في تصريح له: «إن العلمية كانت بمثابة صاعق تفجير» وأضاف : «إن هدفنا الحقيقي هو تنظيف جنوب لبنان مرة واحدة وإلى الأبد من مراكز «الإرهابيين» الفدائيين الذين تلقوا إمدادات مهمة خلال الأشهر الأخيرة» الصحف الصهيونية في 16 آذار 1978، ومجلة شؤون فلسطينية، العدد 78، أيار 1978 صفحة 45 .
ثمة هدف آخر مهم جداً كان العدوّ الصهيوني يسعى إلى تحقيقه من وراء العدوان، ألا وهو خلق منطقة عازلة في الجنوب بعمق معين تشغلها قوات دولية لحماية حدودها ومنع أي عمليات من الجانب اللبناني ضدّها. إضافة إلى هدف ثالث، إذ كان العدوّ الصهيوني يريد أن يضع إسفيناً بين البيئة الحاضنة للمقاومة الفلسطينية والأحزاب الوطنية من ناحية، وهذه المقاومة والمنظمات من ناحية أخرى، وإظهار أن كل ما يحصل في المنطقة من مآسي وقصف وقتل وغير ذلك، سببه وجود المنظمات الفلسطينية واحتضان الأحزاب والمواطنين لها.
بعد منتصف ليلة 14 آذار 1978، وفي تمام الساعة الواحدة وخمس وثلاثين دقيقة تحديداً، بدأت العمليات الحربية الصهيونية، وراح الطيران المعادي يشنّ أعنف الغارات، وتركز القصف بشكل رئيسي على القطاع الأوسط، مركز الثقل الأساسي للقوات المشتركة والمقاومة لالفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني، والسرية الطالبية التابعة لمنظمة فتح، وشمل القصف بنت جبيل وجوارها، مدخل البلدة، تلة مسعود، مدرسة المغتربين مدرسة جميل جابر بزي لاحقاً التي دمّرت بالكامل، مفرق عيناتا ـ بنت جبيل، مارون الراس عيناتا، وجميع خطوط الإمداد التي يمكن أن تسلكها القوات المشتركة وحلفاؤها.
الحقيقة تقال، لم يبق على المحور الأساسي في تلة مسعود سوى المناضل حسان شرارة وقاسم بزي زيتون من بنت جبيل، وبشار من الخيام ، مع مجموعة من أفراد السرية الطالبية التي كان يقودها الضابط المعروف بـ»جهاد» وتصدّت هذه المجموعة للقوات الصهيونية وأخرت تقدمها نحو بنت جبيل والمحيط، وقدّم هؤلاء الشباب دماءهم في سبيل الأرض والشعب، ورفضوا الانسحاب، وخاضوا معركة في خلة المشتى وعلى المحور الشرقي عند المهنية وعند المسلخ القديم مربع التحرير لاحقاً ، واستشهد عدد من رجال منظمة الصاعقة في مارون الراس ودفنوا في بنت جبيل، كما خاض مقاتلون من الأحزاب اليسارية شيوعيون، قوميون اجتماعيون، بعثيون، منظمة عمل شيوعي… معارك بطولية على تخوم بلدة عين إبل، واستشهد معظمهم، ودفنوا في مقبرة جماعية عند مفرق الطيري ـ بنت جبيل بعد التحرير مباشرة كشف عن هذه المقبرة، ووجدت جثث أكثر من خمسة وثلاثين شهيداً، عرف معظمهم، ودفنوا في مقبرة جماعية في بنت جبيل بعد احتفال مهيب .
بعد الاجتياح، استبيحت المنطقة كلها للصهاينة وعملائهم من الميليشيات، وكانت الاستباحة الأسوأ، والأكثر تأثيراً لبنت جبيل والخيام… الخسائر العامة كانت لبنانياً وفلسطينياً نحو 1200 شهيداً، ونزوح أكثر من 300 ألف مواطن، وكان النزوح في اتجاه صيدا وبيروت والبقاع، وسميت العملية بـ»عملية الليطاني» وشارك فيها أكثر من ثلاثين ألف جندي صهيوني، ومئات الطائرات والدبابات والمدافع…
وكان الهجوم بحسب يعقوب أرز، المعلق في صحيفة معاريف الصهيونية، «أكبر هجوم قام به الجيش «الإسرائيلي» على منطقة جنوب لبنان» نقلاً عن جريدة النهار 4 تموز 1996 .
تقدم لبنان بشكوى إلى مجلس الأمن، وبعد المداولات والمناقشات صدر القرار 425 ثم 426، بتاريخ 19 آذار 1978، ونصّا على ما يلي:
1 ـ يدعو مجلس الأمن إلى احترام صارم لسلامة الأراضي اللبنانية، وسيادة لبنان، واستقلاله السياسي، ضمن حدوده المعترف بها دولياً.
2 ـ يدعو مجلس الأمن «إسرائيل» أن توقف فوراً عملها العسكري ضد سلامة الأراضي اللبنانية، وتسحب على التوّ قواتها من كامل الأراضي اللبنانية.
3 ـ يقرّر مجلس الأمن، في ضوء طلب الحكومة اللبنانية، أن ينشئ فوراً تحت سلطته قوة موقتة، تابعة للأمم المتحدة، خاصة في جنوب لبنان، وغايتها التأكد من انسحاب القوات «الإسرائيلية»، وإعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان على ضمانة استعادة سلطته الفعلية على المنطقة، على أن تتألف القوة من عناصر تابعة لدول أعضاء في الأمم المتحدة.
لم ينفّذ من هذين القرارين سوى مسألة انتشار القوة الموقتة التابعة للأمم المتحدة، والانسحاب الكلي لم يحصل، والاعتداءات استمرت، والخروق بقيت، ومجلس الأمن لم يدن «إسرائيل» ولو لمرة واحدة على أفعالها، وهي اضطُرت إلى الانسحاب من أجزاء من المنطقة، لكنها بقيت في الشريط الحدودي المحتل الذي أسسته لحماية حدودها كما اعتبرت.
أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية