الرؤى التأويلية الحداثوية في «إيقاعات متمرّدة» للشاعرة ليندا نصّار

هاني عقيل

مما لا جدال فيه، أنّ نصوصاً حداثية كثيرة، تحتفي بالغرابة والغموض كاشتراطات نصّية في بناء النصّ، من خلال التراكيب اللغوية المستحدثة، أو من خلال الاحتفاء بالرمز. من هنا، كان لزاماً على الناقد أن يأخذ بالتأويل لفتح النصّ بفيوضات نقدية على طاولة المتلقّي. ولا يخفى علينا أنّ التأويل مصطلح قديم تنبثق منه أطياف المعرفة، وتناوله عددٌ من النقّاد، وما زال إشكالية اصطلاحية إلى يومنا هذا.

ومن خلال القراءات الثلاث، وجدنا أنه يتشابك بأواصر عميقة معها، من خلال مراحل الاستقراء والتفسير والتحليل، للوصول إلى جادة الحكم النقدي. ومن هنا، لا بدّ من تناوله بحذر، ويجب عدم الخلط بين مفهومه القديم ومفهومه الحديث.

قديماً، لا يعدو التأويل كونه اشتراطاً نقدياً يُعنى بمحاولة فهم المنجز الأدبي وتأويله. وحديثاً، هو الولوج إلى خفايا المنجز الأدبي، والتغلغل إلى ما وراء المعنى لفهم المغزى الحداثوي في الرموز النصية، وتوظيفها لوضع دلالات مستحدثة داخل النصّ. وهذا يتم من خلال طرح الناقد المتمكن من أدواته، جملة من الاسئلة النقدية المجدية، والبحث لها عن إجابات، وربط تلك الإجابات بالواقع المعاش والفكر المطروق ايديولوجياً، وهذا لا يتأتى إلا من خلال ربط النصّ بكل اشتراطاته وسلطته، بتلك المفاهيم المطروحة مجتمعياً، لكي يمارس النصّ سلطته الإبداعية والفكرية.

من خلال ذلك كلّه، سنتطرق إلى تجربة الشاعرة اللبنانية ليندا نصّار في ديوانها «إيقاعات متمرّدة».

عند تخطّي عتبة الولوج إلى نصوص الشاعرة اللبنانية ليندا نصّار، لا بدّ لنا من التقصّي عن المعنى المفقود. إذ هي تستنفر القارئ لاستحضار كل اشتراطاته ومرتكزاته التأويلية لفهم النصّ، على رغم بساطة التراكيب. والسبب يكمن في أنّ مجمل نصوصها يفسح المجال أمام تلوّن الذائقة الفردانية لدى المتلقي، وهذه لعمري حذاقة شعرية تحسب للشاعرة، إذ هي تترك عملية الكشف عن النصّ للقارئ أيّاً كان نوعه، وله مطلق الحرية في استخدام أدواته الذهنية لاستقراء النصّ كما في قولها:

وفي سبيل المثوى الأخير

تنهزم سكرة مشتّتة

سكرة علّمتنا السّير

أسكنتنا في نهش السّحاب

وما بين العصف والريح شغف مغاير

وتهافُت لحظات متناهية

تعدو كذكرى هاربة.

في نصوص نصّار قيمة صوَرية خيالية تدعو إلى التأويل. فهي توظّف الدوافع النفسية وبشكل حاذق لعمل ارتجاجات ذهنية لدى المتلقي، لتحريك ديناميكية حيوية داخل النصّ، تتداخل والبناء الهندسي الجمالي داخل النصّ، وذلك من خلال طرح متضادات صورية وفكرية، هي من الاهمية بمكان. وهذا ما يؤدّي إلى فهم المتلقي جدلية النصّ والواقع المعاش.

متشابهون

يحدّقون بك وأنت عند محطة تشبههم

لا تعنيهم سوى صوَر رسمتها أصابعهم الملوّثة

متشابهون وسِمات الأنا على جبينهم

لا ترتعش لهم عين

يأكلون من روحك

يجهدونك

يرمونك بركلة واحدة

تفيق أناك

عند رصيف اليقظة

ستدرك أنهم متشابهون

اللاوعي، الميدان الثري الذي تتشكل فيه رؤى النصّ الشعري بصوَر وإيقاعات لها ارتباطات ذهنية والوعي الانساني والوجودي للشاعرة، ويتم ذلك من خلال الإشارة إلى ثيمات النصّ غير المرئية. وهنا يلعب الخيال الدور الفعّال في زجّ الأطياف الشعورية والفكرية معاً، لتفعيل البنى التعبيرية التي تأخذ على عاتقها بناء التجربة الانسانية لدى الشاعرة.

عدني واللّيل

يحلو بالأماني

وغفوة المشتاق

عجيب أمرها،

تشبهني

تتمرّد عليّ

وابتساماتها مبتذلة،

ترثي مدنًا

سرقتها الآهات

وبدهاء تبرم عقداً،

ومع اللّيل

نعود، فيحلو الرّقاد.

إن معمارية البناء الجمالي الهندسي للمنجز الأدبي، لا بدّ أن تقوم وفق مزج نسبٍ متقاربة من العاطفة والخيال والفكرة لطرح الصورة الشعرية مع الاحتفاء بالحسّي وغير الحسّي، وهذا ما يجعل النصّ يحتفي بالتأويل الصوَري بعد التأويل المعنوي للنصّ المرمّز. إذ إنّ قدرة الشعراء تتفاوت في ميدان التخيّل لصنع الصورة الشعرية. وبالتالي، هي تتباين في رؤى التشكيل. والشاعرة ليندا نصّار تحلّق بنصوصها وصوَرها الشعرية بعيداً عن واقع الزمان والمكان. وهي شاعرة تملك خيالاً خصباً لتقدّم صوراً شعرية تمنح المتلقي دفقاً شعورياً حسّياً بعد تأويلها.

هو مضى تاركًا الظل والركام

تشيّع عند عتبة اللّامكان

هو أطلق الضّوء للغرقى

وقاد سفينة الأحلام

رحل تاركًا شبيهاً له

وراح يروّض الطوفان

الصورة الشعرية هي بالضرورة أداة الشاعر التعبيرية وتتمتع بتقنية هندسية ترضخ لرؤى الشاعر وحساباته المنطقية. وليندا نصّار من الشاعرات اللواتي امتلكن تلك التقنية في بناء الصورة الشعرية وبحذاقة عالية، ما حدى بالمتلقي على أن يلقي بغلاله التأويلية على جسد النصّ، لفهم مخزونه الفكري واستشفاف رؤاه الشعرية. وهذا نتيجة تمكّن الشاعرة من إحالة تلك التصوّرات إلى معين شعريّ أخاذ.

قناديل منسيّة

في ليلة كلّلها السواد

أشعلت أضواء مصابيحي

ورحت أنتظر

كأساً من النبيذ من خابية عتيقة

وساعة تومض في الميعاد

مهجورة لحظات عمري كلّها

وقفت قدَّام قناديلي بلا ضياء

أبحث عن أشلائي

قصيدة النثر الحداثوية، ما هي إلا عملية اختزال صوَري وإيقاعي رؤيوي. فلا بدّ من التأويل، وكلّما تمثل النصّ الاشتراطات الحداثوية لقصيدة النثر، كان أدعى إلى التأويل، لذا تستخدم الشاعرة اللبنانية ليندا نصّار جملة من الرؤى والاشتراطات الصورية في تكثيف اللغة الشعرية لديها، خصوصاً تلك الرؤية التي تبني من خلالها النصّ، وتشكّل الصور. فهي تضيء المعنى بفيوضات تغلق عنّا باب الواقع وتفتح مديّات من التأويل للولوج إلى جوهرها البحثيّ في النص المطروح.

في ذلك العباب

وانفجر الطوفان بي في عتمة الأشواق

في ليلة عاصفة مجنونة الأمطار

والآن ما زالت تزجّ الريح

وكان من آثارها الغرق

تعوي من الغرق

عقارب الساعات والثواني

واللحظات أصبحت غرقى من العذاب

ولفّت الأماني

ومن جديد راح ينهمر

في ليلي المطر

عن مهرجانات بلا شرعية…

اقتضت الحذاقة النقدية الحداثوية من الناقد أن يلج المنجز الأدبي من أبعاد مختلفة. فقصيدة النثر الحداثوية موشور صلد بأطياف متعدّدة. ولا بدّ للناقد من استقراء النصّ لأكثر من مرّة، وتعدّد التناول النقدي يفتح النصّ أمام المتلقي بشكل جليّ، ويسحره بجمالية التناول المعمّق. وهو لا بد أن يضيف إلى رؤى الشاعر ما خفي عنه دلالياً وشكلياً ورؤيوياً. ونصوص الشاعرة ليندا نصّار تحتفي بعدّة أبعاد تمكّن الناقد والمتلقي من تلمّس مواطن التأويل الجماليّ ـ الحسّي وغير الحسّي في النصّ المطروح.

البعد الزمني: إنّ القيمة التأويلية للنصّ لا يمكن أن تتمظهر على يد الناقد إلا من خلال ملاحقة النصّ وفق الزمن الزئبقي الذي لا يقرّ على حال. وهذا ما يدعو شعراء قصيدة النثر من تحريك بين أزمنة متباينة لخلق حالة من الفوضى تدعو إلى التأويل. إذ إن سحب النصّ نحو أزمنة موغلة سحيقة في عمق التاريخ، وربطه بالحاضر، من اشتراطات البناء الجمالي للنصوص الحداثوية. هكذا فعلت المبدعة ليندا نصّار، إذ حرّكت النصوص على طاولة الزمن الزئبقي لتدهش القارئ بسيل من الرؤى يحتاج إلى تأويلها اعمال الفكر لدى الناقد والمتلقي على السواء.

سيعود شاهراً حنيناً

وحكاية مستلقية

على جرح فرعونيّ

مزّقت حجراً

تناسلت… تحوّلت

اتركوه لا تذبحوه: نَبَضَ صارخاً

إنّه الأخير

وسط فكري

غلّفه الليل

مسحوراً صار

في قبضة غرقى

فلا تذبحوه!

البعد الحركي: ما يساعد في التأويل، تتبّع الناقد تلك التنقلات الحركية التي تمنحها الشاعرة للنصّ. فمما لا شك فيه، هي تمثل المفاتيح التي يتم من خلالها فتح ما انغلق دوننا من نوافذ النصّ. وفي مجمل نصوص الشاعرة ليندا نصّار، تنقلات حركية هي من الاهمية بمكان. فهي تربط النصّ بثورة حركية يتماهى فيها النصّ وروح الشاعرة الثائرة، والتي لا تقرّ على حال. ففي أحد النصوص تحرّك الشاعرة النصّ بين عدة رؤى بين العجز والسكون والانتظار والاستلقاء ثم تحريك النصّ بحذاقة رائعة نحو الهروب وشحذ الشغف والتسوّل .

وأنت ما عدت تشبهني

عاجزاً تستلقي

تنتظر بين الظلال

وتسكن فجراً هارباً

وأنا متسوّلة

أشحذ من عينيك

شغفي بعينيك

وأنسى جوعي إليك

البعد اللونيّ: تمارس الشاعرة ليندا نصّار طقوساً لونية لتسح على جسد القصيدة عدة أطياف لونية تبهر القارئ بها. وما لا يخفى علينا، أن تمثل اللون بالمفردة المنطوقة يعطي دفقاً لونياً أكبر للنصّ، ويمنحه قوة رمزية ومبتغى تأويلياً للتعبير عن إرهاصات شعورية لدى صاحب المنجز. وتعطينا قدرة إضافية لفهم النصّ. ففي نصّها «إيقاعات متمرّدة»، تحتفي بجملة ضربات لونية يشرق بها النصّ وتدعونا من خلالها إلى التأويل لمفرداتها الليل / النور / آخر الليل / في العتمة / رماد / عثرات الظل /غمام .

تدرّج لوني من الروعة بمكان

جياع والليل

وجياعٌ هم، والليل عليهم أغلق أبوابه

والليل قبور

والنور يثور على ذاته

وشفاهٌ تحني غربتها

كأواخر ليل

والريح تصيح بأجراس

في العتمة تشبه حرّاساً

ورماد قد غطّى الإحساس

لم يلدِ الحبّ ولم يولد

وهنالك في عثرات الظلّ

غمام راح يصلّي والليل يغلق أبوابه.

الشاعرة ليندا نصّار شاعرة برؤى ناقدة، وناقدة بخيال شاعرة، يتهادى الحرف بين أناملها برؤى الحداثة. لغتها مجدية ثرة، تسح على منجزها غلالة تأويلية شفيفة، يتشرنق الإبداع تجربتها الشعرية، وتحفل نصوصها بالبعد اللوني ـ الحركي ـ الزمني، وتتمظهر لديها كينونات شعرية فريدة.

ناقد وباحث عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى