هل تطيح «بريكس» بنظام «بريتون وودز»؟
إنعام خرّوبي
في خضم عصف الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية قبل سنوات قليلة، وتحقيقاً لـ»نبوءة» جيم أونيل، المحلل الاقتصادي اللامع ورئيس أحد أكبر بنوك العالم «غولدمان ساكس» التي ضمّنها في دراسة بعنوان: «حلم البريك: الطريق إلى 2050» توقعت تحوّل دول البرازيل وروسيا والهند والصين إلى قاطرة الاقتصاد العالمي، اجتمع رؤساء تلك الدول في مدينة ييكاتيرينبرغ، في روسيا في حزيران 2009، حيث أعلن الحاضرون عن الحاجة إلى نظام عالمي جديد اقتصادياً وسياسياً.
ومع الإشارة إلى أنّ أونيل كان أول من استخدم مصطلح «بريك» في العام 2001 للدلالة على تلك الدول، سرعان ما أصبح اجتماع بلدان المجموعة حدثاً استراتيجياً على الروزنامة الدولية السنوية، وانضمّت إليه في فترة لاحقة من العام 2010 دولة جنوب أفريقيا لتتحوّل المنظمة إلى تسمية «بريكس».
واللافت أنّ تلك الدول احتفظت بمعدلات نمو أفضل، قياساً بنظيرتها الغربية في أوج الأزمة الاقتصادية العالمية، وما زالت تعتبر الاقتصادات الأسرع نمواً، وهذا ما أدّى إلى تزايد أهميتها الدولية، ما صاعد بدوره طموحاتها العالمية. فطبقاً لأرقام البنك الدولي، وصل حجم الناتج الاقتصادي لبلدان «بريكس» نحو 16.5 تريليون دولار أي ما يُعادل نحو 18 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي خلال 2014. ولا يزال نفوذ المنظمة وتأثيرها الاقتصادي في الدول النامية يتنامى، لا سيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وقد سبق أن أعلن رئيس أوروغواي خوسيه موخيكا خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العام الماضي أنّ وجود روسيا والصين يُعتبر «طريقاً جديداً يعكس أهمية المنطقة، وربما يبدأ العالم في تقييمنا بصورة أفضل». وكما هو معلوم، فإنّ الصين المهتمّة على نحو خاص بالاستثمار في مجال الطاقة والنقل باتت أكبر شريك تجاري لعدد متزايد من بلدان أميركا اللاتينية كالبرازيل وتشيلي وبيرو، كما هو واقع الحال كذلك في القارة الأفريقية.
على مدار الأعوام السابقة التي شهدت انعقاد ستّ قمم، عبّر زعماء «بريكس» عن انزعاجهم من تزايد استخدام الغرب المؤسسات المالية الدولية كأداة ضغط. ووفقاً للاتفاقية التي وقعوها العام الماضي خلال القمة السادسة في مدينة فورتاليزا البرازيلية، ستقوم المجموعة بإنشاء بنك تنمية جديد وترتيب احتياطي للطوارئ. وفي القمة الأخيرة جرى الاتفاق على إطلاق تلك المشاريع.
وبحسب وكالة «شينخوا» للأنباء، سيتمّ تأسيس بنك التنمية الجديد الذي يتخذ من شانغهاي مقرّاً له برأس مال مبدئي بقيمة 100 مليار دولار أميركي ورأس مال مساهم بقيمة 50 مليار دولار أميركي، على أن يتمّ تقسيم المبلغ بالتساوي بين الدول الأعضاء المؤسِّسة. وسيكون محور عمل البنك المذكور تمويل مشروعات التنمية. وفي ما يتعلق بترتيب احتياطي الطوارئ الذي سيضطلع بدور أساسي في مساعدة دول التكتل التي تواجه أزمات في السيولة النقدية إلى جانب تقديم إجراء احترازي لإحباط ضغوط السيولة قصيرة الأجل بما يضمن تعزيز الاستقرار المالى العالمي، ستسهم الصين بمقدار 41 مليار دولار أميركي في رأس المال بينما ستسهم كلّ من الهند والبرازيل وروسيا بمبلغ 18 مليار دولار أميركي لكلّ منها، في حين تسهم جنوب أفريقيا بمبلغ 5 مليار دولار أميركي. ومن العوامل المرجِّحة لنجاح تجربة ترتيب احتياطي الطوارئ هو أنّ احتياطات العملة المشتركة للتكتل تصل إلى نحو 4 تريليونات دولار، ما يُعادل 75 في المئة من احتياطات العملة عالمياً.
تطمح دول «بريكس» من كلّ إجراءات التعاون والتكافل في ما بينها إلى تقديم نموذج يحتذى ويحظى بقدر كبير من الجاذبية في أعين دول العالم الثالث يسهم في تحفيز الإصلاحات الضرورية في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، من حيث تأمين خيارات تنموية للعديد من الدول النامية بديلة عن هياكل الإدارة الدولية الحالية المتمثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين.
وقد أشاد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بدول «بريكس» لقدرتها على الحفاظ على أسلوب حديث فائق كمنظمة تعكس النموذج الديمقراطي للعلاقات الدولية. ووفقاً لبعض التحليلات، يظهر إنشاء بنك التنمية الجديد وترتيب احتياطي الطوارئ في قمة التكتل الأخيرة في روسيا أنّ دوله لديها ثقة وقوة كافيتين في ظلّ امتلاكها سوقاً كبيرة محتملة ومجالاً سياسياً كافياً.
وخلال القمة المنعقدة للمنظمة في البرازيل عام 2014 عبّر القادة، وفق إعلان فورتاليزا بالقول: «إننا نعتقد أنّ بريكس هي قوة هامة لتغيير تدريجي وإصلاح المؤسسات الحالية لتكون أكثر تمثيلاً والحكم العادل، كما أنها قادرة على توليد نمو أكثر شمولاً وتعزيز عالم مستقرّ وسلمي ومزدهر».
أما بيانات صندوق النقد الدولي، فتبرز بوضوح أنّ الإسهامات التي قدّمتها دول «بريكس» للنمو الاقتصادي العالمي خلال العقد الماضي تجاوزت 50 في المئة وأنّ النمو في اقتصادات تلك الدول سيكون أعلى من نظيرتها المتقدّمة وغيرها من الاقتصادات الصاعدة بحلول عام 2030.
يصرّح قادة دول مجموعة «بريكس» كالرئيس الصيني بأنّ المواجهة مع المؤسسات الدولية القائمة ليست هدفاً، بمقدار ما أنّ الهدف هو إفساح المجال لتطوير آليات التعاون بين الجميع من أجل الاستقرار والتنمية، بينما الواقع يشي بأنّ للمجموعة توجهاً مدروساً من شأنه أن يسحب البساط تدريجياً من تحت أقدام المانحين الدوليين التقليديين وعلى رأسهم صندوق النقد والبنك الدوليين، وهما أحد أبرز «المعالم الأثرية» لنظام «بريتون وودز» الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية.
أمام المشهد الاقتصادي المتغيّر، لا يبدو أنّ نظام «بريتون وودز» قادر على الاحتفاظ بمكانته في الصدارة لوقت طويل. فهل تطيح مجموعة «بريكس» بهذا النظام؟ كثيرون يتوقعون ذلك، ولكنّ السؤال الأهمّ يبقى، متى وكيف؟