إيجابيات وسلبيات ـ والعبرة في التنفيذ!

علي بدر الدين

حسناً فعل وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في دعوته المزدوجة لعقد مؤتمري البعثات الدبلوماسية والقنصلية اللبنانية في العالم، و«الطاقة الاغترابية» في بيروت في فترة زمنية متقاربة وقياسية مع أن التحضيرات لم تكن كافية، وقد لا تلبي الطموحات والآمال المرجوة. ولا تتناسب مع حجم الحدث الاغترابي. غير أن التئامهما في ظروف سياسية واقتصادية وأمنية، كتلك التي يمر فيها لبنان، حولتهما إلى حدث بالغ الأهمية، وتحديداً مؤتمر الطاقة الاغترابية لما يمثله المغتربون والمنتشرون والمتحدرون من أصل لبناني من طاقات وقدرات هائلة على المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية في قارات العالم الست. إذ تبوأوا المناصب الرسمية العليا ونالوا الجوائز والأوسمة وشهادات الكفاءة والتقدير على إبداعاتهم ونجاحاتهم. وظلوا أقوياء فاعلين ومبدعين على رغم غياب الدولة اللبنانية، وحملات استهدافهم والمناقصات غير الشريفة من «لوبيات» صهيونية ومجموعات عنصرية، بهدف إضعافهم وضرب مقومات نجاحهم، وزعزعة ثقة الدول والحكومات والشعوب بهم.

الحق يقال، إن الوزير نجح في جمع مئات اللبنانيين من 36 دولة في العالم، وفي استقطاب نخبة كبيرة من المتفوقين والمتميزين في أعمالهم المختلفة. وقد لبوا الدعوة إلى المؤتمر، لأنهم وجدوا فيه فرصة قد لا تتكرر، ومناسبة اغترابية وطنية لإثبات حسن النيات، وردّ التهمة عنهم، بأنهم تخلوا عن وطنهم الأم، أو أصبح بالنسبة إليهم في غياهب النسيان. وأثبتوا أنهم الفروع لجذور آبائهم وأجدادهم وأصولهم المتجذرة في أرض لبنان، التي ثبت في نفوسهم لواعج الحنين والشوق والانتماء وتضخ في شرايينهم دماء الولاء له من دون سواه.

وتكمن أهمية المؤتمر أيضاً، في أنه عقد في لبنان هذا البلد القابع منذ عقود على فوهة بركان سياسي طائفي يغلي، وقد ينفجر في أية لحظة يتشظى منه المقيمون والمغتربون من أبنائه، شكّل تحدياً وقوة جذب فاعلة ومؤثرة لأبناء وأحفاد مهاجرين تحولوا بفعل الزمن إلى متحدرين من أصل لبناني، مضى على هجرهم لبنان أكثر من 150 سنة، تبدّلت خلالها الأحوال، وتغيرت الوجوه والأسماء والعادات والتقاليد واللغات والسياسات والأحلام. ولمّ شملهم في مؤتمر يعدّ إنجازاً يُسجَلُ للوزير باسيل، لا يمكن نكرانه أو الاستخفاف به، بخاصة أنهم قبلوا الدعوة إلى وطن مثخن بالجراح، عجز مسؤولوه عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد أن تحولوا إلى أسرى توافق عربي وأقليمي ودولي لتعيين الرئيس العتيد والذي يبدو وفق أجنداتها أنه لم يحن آوانه بعد أقله في المدى القريب.

لبوا الدعوة إلى المؤتمر وهم يدركون أن وطنهم الأم يعيش لحظة تاريخية سياسية مأزومة ومعقّدة وأن مستقبله لا يبشر بالخير والتفاؤل وقد انسحبت تداعيات الفراغ الرئاسي على حكومة بدأ سوس الخلافات والانقسامات والاجتهادات القانونية والدستورية حول صلاحياتها الطارئة والمفترضة ينخر جسدها الهزيل، وهي التي ولدت بعد مخاض طويل وغير طبيعي، وأن السلطة التشريعية مجلس النواب معرض للشلل والتعطيل ولفقدان دوره لكثرة إسقاطات الخلافات والانقسامات عليه، واعتماد البعض لسياسة العزل والمقاطعة وفرض الشروط المسبقة. وأن خارج قبب القصور الرئاسية الثلاثة، يئن اللبنانيون من عبء السياسات الخاطئة، وثقل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية ومن ضياع الحقوق، وانعدام المسؤوليات والتي ستؤدي إلى غليان الشارع، لانسداد أفق التفاهمات بين الأفرقاء السياسيين على المصالح والحصص والمكاسب السياسية والطائفية.

في ظل هذا الواقع الصعب والمؤلم، الذي وضع لبنان على حافة الهاوية وفي أحضان «انفجارات» سياسية وطائفية واجتماعية، تجرأ الوزير باسيل وتحمّل مسؤولية انعقاد هذا المؤتمر الاغترابي الذي أمل منه ضوءاً أو بصيص أمل مفقود في عتمة أرادها البعض وعلّه يشكل تظاهرة اغترابية استثنائية، وهذا ما حصل، ما أثار الدهشة والإعجاب في آن. وأكد من خلاله أن لبنان كطائر الفينيق الذي يرغب بالحياة مهما بلغت الأزمات وقست الظروف، وأن نفط لبنان الاغترابي جاهز ليكون المنقذ وصمّام الأمان.

هذه اللوحة عن واقع لبنان قد يرى فيها البعض سوريالية أو خليطاً من الأحزان والأمنيات والرغبات ولكنها الحقيقة الموجعة التي يخشى اللبنانيون من تداعياتها في المستقبل الآتي. ولا ندّعي أن مؤتمر الطاقة الاغترابية سيحقق المعجزات أو أنه سيضعنا على سلّم الأمان والتفاؤل والإنقاذ، بل يمكن اعتباره بذرة عطاء وثمرة جهود علّها تنبت في صحرائنا القاحلة وترفع من منسوب الثقة بأن لبنان لن يموت وأن أبناءه من المقيمين والمغتربين لن يفرطوا فيه أو يتركوه فريسة سهلة في فم تنين صراع المصالح وتقاطعها.

وهذا لا يعني أننا نستند إلى ما تضمنه البيان الختامي للمؤتمر بعد أن فاضت جلساته على مدى يومين بالنقاشات والكلام الجميل والوعود والأحلام البعيدة، فهذه من أصول المؤتمرات التي لا بد لها من بيان النهاية يتضمن مقررات وتوصيات وأمنيات، قد ينتهي مفعولها عندما يحمل المؤتمرون حقائبهم ويعودوا من حيث أتوا. وقد لا تتطابق حسابات بيدرهم مع حساب حقلهم. وقد يحظون بالتعارف والقبلات والمآدب. لأن العبرة دائماً هي بالتنفيذ. وليس بكمية ونوعية ما يصدر من توصيات ورغبات لا قيمة لها ولا طائل منها إذا ظلت حبراً على ورق أو هجرتها العقول والأدمغة والطاقات التي خاطرت وتكلفت وتحملت عناء السفر وودعت وغادرت حاملة معها الأماني والذكريات ورحلة من العمر ربما ترثها الأجيال المتعاقبة التي تستفيد من مخزونها إذا شاء القدر والمسؤول دعوتها إلى مؤتمرات مشابهة في حقبات مقبلة.

بعض الإيجابيات التي أنتجها مؤتمر الطاقة الاغترابية قد يرى فيها الوزير باسيل حافزاً لمغتربي لبنان للعودة إلى الوطن واستمرار التواصل بأشكال ووسائل مختلفة. وقد يكون أصاب برعايته، وحقق جزءاً مما أراده من هذا المؤتمر وخطط له. ولكن الكمال لله وحده لأنه من الصعوبة بمكان أن يحقق نجاحاً كاملاً. وربما هذا أمر بديهي وطبيعي، ومن يعمل يخطئ وعن غير قصد، ومهما كانت الأخطاء كبيرة أو صغيرة بالإمكان إبطال مفاعيلها السلبية. وهذا ما كان على الوزير باسيل أن يأخذه في الاعتبار وقبل إطلاق مبادرته الوطنية الاغترابية، والخروج بنتائج أفضل وأشمل.

أولاً: أن ينطلق قطار اهتمامه ورعايته للمغتربين اللبنانيين من نقطة البداية، أي بمعرفة مكامن الخلل والتصدع والانقسامات التي قضت مضاجع اللبنانيين، وظهرت إلى العلن في المؤسسة الاغترابية المتمثلة في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، التي هي اليوم ثلاث جامعات، مع أن هناك جامعة شرعية أماً معترفاً بها رسمياً، وتعقد مؤتمراتها برعاية رسمية ويرأسها أحمد ناصر.

ثانياً: أن يدعو المختلفين والمنقسمين إلى لقاء مصالحة ومصارحة، وحوار جدي ومسؤول لتوحيد الجامعة والاغتراب والتفاهم على مؤتمر جامع وشامل يكون برعايته من شأنه إذا حصلت إعادة هيكلة الجامعة وتطوير قوانينها وأنظمتها المعمول بها منذ عام 1960 عندما أبصرت النور في مؤتمرها الأول، لأنها منذ ذلك التاريخ لم يتغيّر حالها بفعل التقصير الرسمي والأوضاع والحروب الأهلية التي شهدها لبنان منذ عام 1975 ولا تزال تداعياتها مستمرة.

ثالثاً: بإمكان الوزير بحماسته واندفاعه الوطني وصدق توجهاته ومبادراته الإصلاحية والتغييرية إقناع المختلفين على الجامعة وبخلفيات طائفية وسياسية وفئوية مهيمنة بضرورة التكيّف مع التطورات التي حصلت في لبنان وبلاد الاغتراب، وبأن الجامعة بوضعها الراهن لم تعد صالحة وباتت عاجزة عن القيام بالوظيفة التي أنيطت بها أو رسمت لها عند إطلاقها. وبأن الضرورات الوطنية تبيح المحظورات.

رابعاً: رغم أهمية انعقاد المؤتمر وضرورته وإيجابياته إلا أنه افتقد إلى شرائح اغترابية فاعلة ومؤثرة وناجحة في مجالات أعمالها، فمنهم من قاطع المؤتمر اعتراضاً وسجّل موقفاً، ولهم باع طويل ومفيد في خدمة لبنان واغترابه. ومنهم من لم تشملهم الدعوة بسبب الاستعجال في عقد المؤتمر ما أنتج تقصيراً وخللاً بحق هؤلاء الذين في إمكانهم أن يساهموا في إنجاح المؤتمر.

ولكن يبدو أن لدى الوزير باسيل ما يبرره للإسراع في عقد المؤتمر وعلى عجل من دون الاستعداد الكامل والكافي. قد يكون منها أنه لا يريد الدخول في متاهات الجامعة الثقافية وانقساماتها التي تحولت إلى مرض عضال الشفاء منه مستحيل. ولا يريد الخوض في تجربة الفشل في العلاج الذي حاول أسلافه في وزارات الخارجية والمغتربين أو سعى إليه الحكم والحكومة وفضّل عدم الرهان على حصان أعرج خسر السباق قبل حصوله، فارتأى أن يطلق مبادرته علّه ينجح في تأمين جسور التواصل مع جناح لبنان المغترب ويضعه على السكة الصحيحة على أمل الوصول به إلى بر الأمان والوحدة والتفاعل مع وطنه وهو الذي يمتلك الكثير من الخبرات والنجاحات التي يمكن توظيفها من أجل لبنان. ولا ننكر أنه لغاية الآن حقق جزءاً يسيراً مما أراده وهدف إليه وترجمه باحتشاد المغتربين اللبنانيين في مؤتمر قد يشكل حجر الأساس لانطلاقة اغترابية جديدة وفاعلة.

ومن خلال كلامه في افتتاح المؤتمر واختتامه بعث برسالة واضحة إلى من يعنيهم الأمر بأن الجامعة الثقافية ومن دون أن يسميها أصبحت وراءها ولا مكان لها في برنامج عمله لأنها بانقساماتها وفشلها أصبحت من الماضي.

وأعلن بوضوح وصراحة عن بدائل لها ربما تكون أكثر فاعلية وتأثيراً وتأطيراً للمغتربين منها تشكيل «لوبيات» لبنانية في الخارج، إعادته تعويم مشروع المجلس الوطني للاغتراب الموجود منذ سنوات في أدراج الحكومات ووزراء الخارجية وهو بحاجة كما غيره من الملفات الخلافية إلى التفاهم والتوافق بين الأفرقاء السياسيين. اقتراحه إنشاء مجلس المنتجين المغتربين اللبنانيين بالتعاون والتنسيق مع جمعية الصناعيين إضافة إلى اقتراحات ومبادرات تضمنها البيان الختامي ويعوّل عليها الوزير باسيل الكثير من الآمال والطموحات وإذا تحققت سنغيّر وجه التاريخ الاغترابي وتدهش اللبنانيين.

المرتجى أن تتحقق الأمنيات وينطلق قطار التنفيذ لا أن يذهب التعب هباء، مع مغادرة المغتربين لبنان الذين انشرحت صدورهم في وطن الآباء والأجداد وتنعموا بـ«الكبة والتبولة والحمص» وتنشقوا هواء الأرز العليل بعد غياب قسري فرضته ظروف الهجرة وبُعد المسافات وتجاهل المسؤولين. ولم يرجعوا إلى أوطانهم الأولى أو الثانية لا فرق وهم يحملون معهم أوسمة المغترب الذي وقعها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قبل انتهاء ولايته. علّها تكون العلامة الفارقة في اغترابهم تذكرهم بالوطن المرهون لغدرات الزمان وفشل الطبقة السياسية.

ولا بد من الإشارة إلى أن اليوم الثالث للمؤتمرين وهو خارج البرنامج المعدّ، قاموا أمس برحلة بترونية تفقدوا فيها غابة المغتربين وافتتحوا نادي المغترب وأكلوا في مطعم «بترونيات» لتفاعل الخبز والملح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى