.
كتب عمّار المأمون: هم عرب لكنهم فرنسيون، من مختلف الجنسيات العربية، يجتمعون في منزل عواطف المصرية لينسوا الفرنسية ويتبادلوا الأحاديث والعلاقات الغرامية في الفضاء الذي يرسم الوشائج التي تحكم أولئك المغرّبين. يسرد الكاتب التونسي الحبيب السالمي في روايته عواطف وزوارها ، الصادرة لدى دار الآداب في بيروت، قصة ستة من العرب تجمعهم الصداقة والحب والجنس.
الرواية بصوت التونسي المنصف أستاذ الفيزياء والكيمياء في أحد المدارس الفرنسية، راوياً علاقته بعشيقته المصرية عواطف التي يقيم معها علاقة غرامية إلى جانب زوجته بياتريس الفرنسية ذات الحضور الهامشي في الرواية. إلى ذلك، تجمع عواطف في منزلها مريم صديقة الاثنين وكانت عشيقة سابقة لـ المنصف . العلاقات بينهم يحكمها نوع من الانتماء، في بلد أجنبي وضع العرب فيه متوتر رغم الجنسية الفرنسية. ينضمّ لاحقا إلى المجموعة اثنان آخران، هما الصحافي الفلسطيني رياض والفنان إدريس ، وهما مثليان جنسيا، ورغم ذلك تقع مريم في حب رياض ، وتتزوج عواطف من إدريس .
إشكاليات عميقة في الهوية تطرحها الرواية، إن على الصعيد القومي أو الجسدي، فالشخوص عربية، إنما تحمل الجنسية الفرنسية، فنحن أمام انتماءين يتداخلان دائماً لدى تقويمهم ما يدور حولهم.
أما على الصعيد الجنسي فالانتماء إلى الجسد وعلاقته بالآخر سمتان واضحتان لناحية الميول أو العلاقة بين الجسد الفرنسي والعربي، إذ تثرثر الشخصيات دوماً حول هذه الأجساد وتقارن بينها وأيّها أكثر فحولة. منزل عواطف أشبه بمكان للتفريغ والتصرف بحرية، فلا محرّمات في هذا الداخل الذي يرسم صورة العربي المتحرر من القيود، في مواجهة الخارج الفرنسي المنظم الروتيني. ما هو حرام ومعيب في البلاد العربية نراه عادياً وصحياً في فرنسا، بل من الغريب مناقشته ومحاولة تبريره.
لكل من شخوص الرواية عدّة حيوات وعدّة صور كوّنتها عن نفسها، فـ عواطف تعيش دوماً في رعب زوجها الجزائري بوعلام الذي يمثل صوت الشرق الذكوري، رغم أن عواطف تحتفظ بابنتها منه لبنى ، إلا أنه دائم التدخل في حياتها بوصفها تمارس الزنى. مريم في الحال نفسها، فهناك ابنها الذي عاد إلى جذوره الشرقية واتجه نحو التشدّد الإسلامي، وينعت أمه بالعاهرة التي تمارس الفحشاء مع الكفرة.
هذا الصوت ضمن الرواية لا يختفي، حتى المنصف نفسه ذو حياة مزدوجة، الأولى مع زوجته الفرنسية الساذجة التي تصدق أقاويله ولا تشك في خياناته، كذلك الصوت القادم من أخته التي تحضر في الرسائل التي تصله منها. الغياب المتمثل بالوطن الأم لا يحمل معه سوى أخبار الموت، فأخته تطالبه أولا بإرسال النقود لتجديد قبر والدته، ثم تفاجئه بأنها ستحفر قبراً له في المدينة كي لا يوارى جسده لدى الفرنسيين الكفرة . يتسلل القلق إلى نفس رياض ، فوطنه الأم لا يذكره إلاّ بالموت، حتى أنه أوصى زوجته الفرنسية بأن يحرقوا جسده لدى مماته ويرموا رفاته في ساقية أو نهر، خوفاً من أن يستيقظ حياً في القبر.
رغم الحرية التي يتمتع بها العرب في فرنسا بوصفهم مواطنين فرنسيين، إلاّ أنهم لا بدّ من أن يتعرضوا للمضايقات، فالشرطة توقف المنصف مرة أثناء عودته ليلاً من منزل عواطف لتسأله عن المخدرات والسلاح الأبيض وهويته، كما يذهب مع عواطف إلى مدرسة ابنتها ليتفاهم مع العربي الآخر، بالإضافة إلى استدعائه من قبل إدارة مدرسته ليشهد مناقشة حول موضوع الحجاب الذي ترتديه إحدى الطالبات العربيات، ورغبة مدير المدرسة في إقناعها بنزعه أو عليه أن يطردها، كأن الهوية الفرنسية التي يتمتعون بها لا تخفي حقيقة أسمائهم ولهجاتهم التي لا تظهر إلاّ في منزل عواطف، فالفرنسي هامشي، أما العربي فمهما كانت انتماءاته وتوجهاته يبقى عربياً.
الحرية الجنسية التي تتمتع بها الشخوص تتلاءم مع الصيغة الفرنسية التي يعيشونها، والمغامرات الجنسية بينهم لا تخلو من تعبير عن الكبت الذي كانوا يعيشونه في بلدانهم، لكن ما يثير التعجب أنه، رغم ابتعاد الشخوص كلها عن الدين الإسلام بخاصة نراهم في ما يتعلق بالزواج يستذكرون أصولهم، حتى أن عواطف تريد الزواج من إدريس على سنة الله ورسوله، ويتغير إثر ذلك سلوكها مع المنصف وتكتفي بمصافحته فحسب بعد أن يعلم برغبتها، فالإشكالية الدينية تتضح لدى الشخوص وعلاقاتها بعضها مع بعضها الآخر، وخاصة حين يصل إنجيل إلى صندوق بريد المنصف يثير استغرابه من المبشرين الموجودين في البلاد.
نهاية الرواية مثل بدايتها، عفوية، فهي تبدأ بكراهية المنصف لكلب عواطف وتنتهي بعدما سلّم بحقيقة زواج عواطف من إدريس وهو يتجول مع الكلب كي يقضي حاجته. ما زالت أسئلة الهوية معلقة، لكن فرنسا تدفع العربي إلى التصالح مع ذاته ولو جزئياً، فما هو حرام ومعيب في البلاد العربية نراه عادياً وصحياً في فرنسا، بل من الغريب مناقشته ومحاولة تبريره.