النووي الإيراني: الفرق بين «فائض القوة وفائض الهَبَل»!
نصار إبراهيم
يبدو الفرق شاسعاً بين استثمار وتوظيف إيران لفائض قوتها لتعزيز دورها وتركيم عناصر القوة والحضور الفاعل دون أن تطلق رصاصة واحدة، وبين استثمار وتوظيف العربان والأنظمة الهشة لفائض هبلها لتبديد ما تملكه من قوة وثروات دون أن يطلق الطرف الآخر طلقة واحدة من رصيده الخاص.
يقول عضو مجلس الشعب السوري خالد العبود: الإيرانيون هزموا العالم… بقنبلة لم يصنعوها!
السيد خالد العبود محق في الوصول إلى هذه النتيجة… ولكن كيف؟ وبأيّ معنى؟ وما الدروس المستفادة من هذا الاشتباك والصراع التفاوضي المرير والطويل الذي دار بين إيران ومجموعة دول 5 +1 على مدار أكثر من إثني عشر عاما… سبقها عقدان من الضغط والحصار على مختلف المستويات… وهل عملية التفاوض التي كانت تدور بين الطرفين هي مجرد سجالات كلامية وقانونية أم هي رأس جبل الجليد الظاهر بينما التفاوض الحقيقي كان يجري في مكان آخر… ويشمل مختلف الميادين التي تتصارع عليها وحولها الأطراف المتفاوضة… أي السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة والسيكولوجيا والعلوم والإعلام والجغرافيا والتحالفات… وغير ذلك.
في هذا السياق يمكن تسجيل الأفكار الأساسية التالية:
ـ السيد الخميني ومن بعده السيد الخامنئي أعلنا وأفتيا مراراً وفي وقت مبكر جداً بحرمة امتلاك السلاح النووي… وأكدا أنّ إيران ليست بحاجة إلى هذا السلاح. بل إنّ إيران كانت تطالب ولا تزال بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل تماماً. وفي ذات الوقت جرى التمسك والتأكيد على موقف مبدئي ثابت مواز وهو حق الشعوب في امتلاك واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية والعلمية كحق طبيعي وعدم البقاء تحت رحمة وشروط القوى الكبرى على هذا الصعيد.
ـ القوى الغربية وعلى رأسها أميركا و»إسرائيل»… تعرف سياسياً ومعلوماتياً واستخبارياً أنّ إيران لا تسعى فعلياً إلى تصنيع وامتلاك السلاح النووي… هم يعرفون هذه الحقيقة… ولكنهم يواصلون استخدامها كذريعة ومبرّر لفرض أهدافهم العميقة المتمثلة بقطع الطريق على إيران ومنعها من امتلاك التكنولوجيا النووية بكلّ ما تعنيه من قوة وتطوّر علمي وتكنولوجي في كافة المجالات… الفيزياء والكيمياء والطب والفضاء والاقتصاد والهندسة والرياضيات وغير ذلك من علوم… أيّ منعها من التحوّل إلى دولة وقوة صناعية وعلمية عظمى. ومن خلال ذلك ضرب إيران في مفهوم سيادتها وحقوقها السياسية والاقتصادية والتحكم بقرارها ودورها الإقليمي. بمعنى الهيمنة على قرارها وسيادتها، وإبقائها كدولة ومجتمع مستهلكين لا منتجين اقتصادياً وعلمياً وحتى ثقافياً.
ـ ولكن كيف استطاعت إيران أن تفاوض الغرب على مدار 12 عاماً والصمود أمام العقوبات والتهديدات والضغوط، وفي النهاية النجاح في انتزاع اعتراف العالم بحقوقها النووية ودورها كقوة إقليمية كبرى:
ـ العامل الأول هو وضوح الهدف الأساسي وعدم إخضاعه للتفاوض مهما كانت الضغوطات والتهديدات… حيث جرى تركيز وتوظيف إيران لكامل قدراتها من أجل حماية الذات القومية والمجتمعية والدولة القومية لتكون قوية مستقلة فاعلة ومتطورة… كان هذا الهدف أو المبدأ ومنذ اللحظات الأولى خارج المساومة بصورة حاسمة… ذلك لأنّ إيران تدرك أنها بدون امتلاك التكنولوجيا ذاتياً فستكون مجرد مستهلك ومستورد لها، وبالتالي ستبقى تابعة وخاضعة لرحمة وإملاءات الدول الأخرى، بما يضرب في العمق مفهوم السيادة القومية.
ـ التزمت إيران وطيلة سنوات التفاوض بمعادلة ناظمة لم تحد عنها قيد أنملة وهي القبول بالتفاوض والاستعداد له ضمن خطط وسقوف وبدائل وأولويات ترتبط بحقوقها الطبيعية كشعب ودولة ذات سيادة، وفي ذات الوقت تفعيل كامل طاقتها وصبرها الاستراتيجي من أجل تعظيم وتركيم قوتها العلمية والاقتصادية والعسكرية… وبهذا استطاعت رغم الصعوبات والتحديات الداخلية أن تبني منظومة إنتاجية متكاملة سواء على صعيد السلع الاستهلاكية أو على صعيد الصناعات الثقيلة على المستويين المدني والعسكري… وبهذا حوّلت العقوبات من قوة كبح وتآكل واستنزاف للقدرات الداخلية والذاتية إلى فرصة لتركيز وتطوير قدراتها الاقتصادية والعلمية.
في هذه السياقات المتداخلة والصعبة قامت إيران بحكمة ودأب وهدوء استراتيجي بتعزيز دورها الإقليمي من خلال تأسيس وتعزيز حزام مقاوم أساسه التقاطع والتشارك الاستراتيجي بينها وبين قوى إقليمية مؤثرة وهو ما بات يعرف بقوس قوى المقاومة ودول الممانعة في المنطقة… ونواته حزب الله وسورية ولاحقاً العراق ثم اليمن… وقد ذهبت في هذا الاتجاه ليس من منطلق انتهازي لا أخلاقي بل من منطلق استراتيجي أساسه تقاطع المصالح والمجابهة المشتركة ضد التهديدات والمخاطر التي تهدّد الجميع، وقد تجلت تلك المخاطر بالطموحات الاستعمارية للهيمنة ونهب ثروات المنطقة، إلى جانب التهديد والمخاطر الاستراتيجية التي يمثلها المشروع الصهيوني على جميع شعوب المنطقة.
أيّ أنه بقدر ما كان الحلف الاستعماري الغربي يحيط ذاته بتحالفات ويعزز وجوده وهيمنته في المنطقة، فقد تحرّك محور المقاومة والممانعة لبناء جبهة صدّ استراتيجي نقيضة. بهذا المعنى فقد تمكنت إيران ومن يقف معها في ذات الجبهة من تعزيز عوامل الصمود والردّ على ضغوط وتهديدات الحلف الغربي، بتعزيز محيطها بقوى داعمة وفاعلة.
ـ ربط إيران بمنظومة حلفاء دوليين أقوياء سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، مثل روسيا والصين، كما عملت وبحيوية ونشاط وصبر لتكون جزءاً من مجموعة «بريكس» و»منظمة شنغهاي» التي تستهدف كسر المنظومة الغربية التي تحتكر وتهيمن على النظام المالي العالمي من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وفي ذات الوقت تعزيز علاقاتها مع دول أميركا اللاتينية التي تواجه ذات الضغوط والمحاولات الأميركية للهيمنة على قرارها وثرواتها.
ـ إدارة التفاوض بمهارة وصبر وذكاء وعناد ومرونة ولكن وفق مبدأ ناظم حاسم ونهائي، وهو المرونة الكاملة في التكتيك ولكن من دون المساس بالمبادئ، أيّ بحقوق إيران السيادية مطلقاً، وهو ما وصفه بعض المفكرين والكتاب بأنه مستمدّ من ثقافة ومهارات نسيج السجاد العجمي بما يتطلبه من تخطيط ودقة في اختيار الألوان وشمولية وصبر مدهش، وفي ذات الوقت الحفاظ على أسرار المهنة بحيث لا تأخذ السجادة شكلها النهائي إلا بعد أن تكتمل.
ـ الاستفادة القصوى من حالة التنوّع السياسي في إيران حيث التناغم والتكامل بين ما يُسمّى بالتيار المحافظ والتيار الإصلاحي في إيران… ففي الوقت الذي كانت ترى فيه الدول الغربية هذا التنوع حالة ضعف ونافذة لإشعال التناقضات الداخلية في إيران بهدف استنزافها، فقد استثمرت إيران ووظفت هذا التنوع بصورة خلاقة، حين أسّست منظومة سياسية وفكرية حكمت سلوك التيارين الأساسيين بحيث ينطلقان دائماً وأبداً في رؤيتهما ومقارباتهما الاستراتيجية وسلوكهما السياسي والاجتماعي من على قاعدة راسخة وهي أولوية مصالح وأهداف إيران العليا… مع ملاحظة أنّ كلا التيارين المحافظين والإصلاحيين وبالرغم من التناقض والتعارض والتباين القائم بينهما في ميادين عديدة، إلا أنهما يتفقان ويتوحدان على هدف تعزيز وحماية مصالح وحقوق إيران ودورها الإقليمي والعالمي، وهو ما بقي خارج التنافس ومهما اشتدّ وتصاعد التناقض بينهما… وهذا يشير إلى نضوج سياسي وثقافي عال جداً، حيث تبقى وتتصرّف المعارضة الوطنية كمكوّن عضوي من مكونات المجتمع والدولة، وليست عبئاً يجب تدميره وسحقه كما يجري في معظم الدول العربية، مما يفقد المجتمع قوة حاسمه من قواه الاجتماعية والسياسية كما يفقده القدرة على المناورة ويدفعه دائماً نحو دوائر التناحر والاستنزاف الداخلي المدمّر الذي يحوّله إلى مجتمع هش ورخو… وبالتالي ينكشف تماماً أمام التدخلات الخارجية.
أما النظام العربي الرسمي، فقد أبدع في استخدام «فائض الهبل العربي والتخلف» لتبديد واستنزاف ثروات الأمة والشعوب العربية وركائز قوتها في عملية تدمير ذاتي شامل والارتهان والتبعية للقوى الاستعمارية. لهذا تصبح إيران قوة عظمى فيما الأمة العربية، التي تمتلك ثروات مادية وبشرية وجغرافية تفوق آلاف المرات ما تملكه إيران، تنحدر نحو الحضيض بحكم السياسات والخيارات العقيمة والجهل والتخلف وضيق الأفق وأنانية الأنظمة السياسية… بل ومعظم المنظومة الرسمية العربية لا تتورّع عن استقدام الجيوش الأجنبية من أجل تدمير أي دولة عربية تحاول أن تشق طريقها نحو المستقبل وأكبر مثال على ذلك: تدمير سورية وليبيا وقبلها العراق والآن اليمن ومصر…
هذا هو الفرق بين استخدام إيران لفائض القوة التي تملكها لتعزيز دورها ومكانتها وتعظيم قوتها وبين استخدام «العربان» لفائض «الهبل» من أجل تدمير وتبديد ما يملكون.