أدلجة الإنسان «إسرائيلياً»
ناريمان منصور
من البديهي أنه عندما يكون الهدف كبيراً بحجم وطن، لا يترك صاحب الهدف وسيلةً إلا ويستخدمها لتحقيق مأربه. أياً كانت الوسيلة، ومهما تعدّدت الطرق. لسنا هنا بمعرض توصيف حقوق لنا في وطننا فهذا من البداهة بشيء لا يختلف عن حقيقة وجودنا في هذا الوطن، وعلى أرضه.
لقد كثرت الأبحاث والطروحات التي تشرح للأجيال المتعاقبة عن حقيقة وجودنا، وآليات التواجد «الإسرائيلي» اليهودي على أرضنا في فلسطين، حتى لكأنّ التنازع أصبح على إثبات من له الأحقية في الانتماء إلى هذه الأرض!
وُظِّفت مختلف الأدوات لكي تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، اتفاقيات ومفاوضات وتقسيمات، كلّ هذه الأمور نعرفها ولسنا بواردها. لكن هناك ما هو بحجم هذا الخطر، بل هو متلازم معه، ومتوافق معه ضمن خانة الأدلجة الفكرية والعقلية التي يعمل عليها المغتصب «الإسرائيلي» الذي يفاوضنا على أرضنا. تصل الصفاقة والوقاحة بهم إلى حدّ أن يفاوضوا الناس على ممتلكاتهم.
إذن، نحن أمام عدو يفعل ما في وسعه ليصل إلى هدفه، وهو يعرف كلّ المعرفة أنه حتى يقتل وطناً مسكوناً بأهله، بتاريخهم، بتراثهم، بكينونتهم الفطرية المتأصلة عبر حقب متعاقبة بعيداً في الزمان، عليه أن يقتل كلّ هذا بدءاً من قتله للإنسان في هذا الوطن. لا ينتهي شيء إنْ لم ينتهِ الإنسان، بكلّ ما يمتلكه من مدركات وفعاليات، بكلّ ما يمكن أن يقوم به من واجبات تتفاعل جدلياً وحتى كيميائياً مع حقوق لا يمكن تصغيرها مهما كان مستوى الواجب أو الحق.
تكثر الأدوات لتحقيق فعل القتل هذا، بل وتنجح في الوصول إلى مأربها تدريجياً وببطء، فالأوطان تستحق الصبر! وتستحق كلّ ما يمكن حتى وإنْ كانت أوطاناً مزعومة، إذ كيف يمكن لمن يريد أن يصنع لنفسه وجوداً متلبّساً بمركّب النقص هذا أن يوفّر جهداً بدءاً من السرقة وصولاً إلى التدمير فالقتل؟!
يتبادر السؤال بشكل تلقائي… كيف يتمّ هذا؟ من أين يبدأ؟ من يُوظَّف له؟ هل هذا خارج عنّا أم متغلغل فينا؟
كأننا نعرف! لكن لماذا لا نواجه كلّ هذا الذي نعرفه إذا كنا على اطّلاعٍ به، بل ونعاني منه!
تبدأ العملية التي ينتهجها العدو بالتغلغل في تفاصيل الحياة، مهما كان مستواها، فهو مضطلع بكلّ مدارس علم النفس والاجتماع والفلسفة، ينتهج منها ما يلائم أهدافه، وما يساعده للوصول إلى مبتغاه. يدمّر ما لغيره لكي يبني ما لديه، إنه لا يستطيع أن يقيم لنفسه قائمة إنْ لم يفعل هذا، لأنّ هذا يخدمه في أن يبدو بمظهر جمالي يخدع من خلاله الآخرين بالترويج لنفسه مستخدماً كافة أشكال الأضاليل، أولها أنه صاحب حق في الوجود استناداً إلى أرضية دينية تفعل فعلها في مكوّنه الوحيد الذي هو يهودي القلب والقالب على أرضٍ اخترع لنفسه تاريخاً عليها!
إنه يتدّخل في حياة الإنسان من حيث لا يعلم، لا بدّ أنه توجد طرائق عديدة جعلت هذا الإنسان لا يعلم… جعلته منساقاً وراء مركّبات تأخذ منحى الظاهرة في المجتمع حتى يصل إلى مستوى تبنّيها كمكوِّن من مكوِّنات ثقافته التي ينشأ عليها، ويصل به الأمر إلى حدّ أنه يتفاخر بها. يتدخل بتربية الأطفال، والشباب، والراشدين، والمثقفين، والنخب. لنصل إلى نتيجة كارثية: إنه يرسم هوية مجتمع بأكمله ليتسنى له صناعة الكائن الذي يريد، الكائن المدمَّر، المهزوم، اليائس، المعترِف به كأمر واقع، بل وطبيعي، إنه يرسم هويّة البطل القومي، يصنعه وفق هواه، هذا البطل الذي نتغنّى بمنجزاته ونتأثر عاطفياً، ووجدانياً، ووطنياً بمعاناته… إنه بطل تعرّض للسجن، والتحقيق، والإيقاف، والتعذيب… إنه ظاهرة تتحوّل إلى نموذج ورمز يشكّل تاريخاً ثقافياً بطولياً لنا، لكن هذا البطل هو صناعة هذا العدو. ولا يبقى هذا ضمن الحيّز الجغرافي الذي يشغله العدو ككيان، بل إنه يتجاوز متخطياً الكثير من الأبعاد تناسباً مع حدود طموحه.