أميمة الخليل صوت مشاكس بحنانه كأنه خميرة الأرض
جهاد أيوب
لم تكن أمسية أميمة الخليل أول من أمس بالأمسية العادية، ولم يكن غناء أميمة لمجرّد الغناء، فمسرح الأونيسكو بمناسبة مرور 50 عاماً على انطلاقة أفعال المجلس الثقافي للبنان الجنوبي كان مزيناً بالحضور الكثيف المتشوّق لسماع صاحبة الصوت الثري بنعومته وهمساته وثقافته واختياراته وتنويعه، أمسية أقلّ ما يُقال فيها إنها كانت ساحرة وتسقي العطشان وتروي السمع مع بعض الملاحظات.
جلسنا وكلنا شوق لاكتشاف ما هو جديد أميمة، قدمتها الدكتورة سميرة البياتي كما لو كانت قصيدة من ذهب لا تعرف الأفول، وحينها زاد شوقنا لاكتشاف جديد أميمة، وهي التي تعوّدنا أن يتحفنا صوتها بالمفاجأة، هذا الصوت الهامس دائماً يتحدى، يشاكس من دون أن يزعج كأنه خميرة الأرض لكثرة تلاصقه مع أناسه، ويأخذنا إلى المتعة، وكم كان لافتاً تفرّد هذا الصوت وصاحبته حينما غنت منفردة بعيداً من المرافقة الموسيقية، وتألقت حينما بكت وهي تردد «تكبّر»… بكت وتابعت ومن ثم بكت حتى تاه الجمهور بنغمات دمعها، وتألقت مرة جديدة كلما باحت «تكبر»!!
صرخة تكبّر
انطلقت أميمة مرتدية ثوبها الأسود وبنغم كلامي محبب في «الطبقة الوسطى»، نغم شعبي مدروس فاق الوصف والانسجام، ومن ثم قصيدة رائعة كتبها حبيب صادق لأهل الجنوب، غنت، تحدت، ابتسمت وأعادت التحية لأهل الكرامات والبطولات والمقاومة، أما في « تكبّر»، فالحديث يحتاج إلى مناسبة خاصة، هنا أفردت عضلات صوتها بثقة العارفة بحدوده، ومتمكنة من السلم الموسيقي ومن اللعب على طبقات غريبة عمّن يغني في هذا الزمن الجاحد!!
فغنت «بنت وصبي» و«دلع النساء»، و«بوح العاشقة»، و«لصوتي» أغنية ثاقبة فيها حساسية مرهفة، وعنفوان الإنسان، أما «غزال» تحية إلى محمد دكروب فكانت بمثابة الخروج عن المألوف، لم تكن لهكذا مناسبة، لكنها حضرت بقوة، لأنّ التوزيع الموسيقي مدروس، والأداء ممسوك، ولكنّ جمهور الأمسية مختلف!!
« شو يا دلي» و «بسهر أنا وياك» و «الحلوة دي» غاية في الأداء الشعبي المفرط، الغني بأنفاس الناس، والأمين بضحكاتهم، والوفي لحزنهم وتعبهم، هنا اكتملت المهمة، وجال الصوت مع التوزيع الجاذب إلى أبعد من حدود الصالة، كلّ من في المسرح تمسّك بمقعده، وأصرّ أن تطول السهرة الأمسية الندوة القصة النغمة الرقصة… وفي تحيتها إلى مارسيل خليفة «قلبي العطشان» تطاير النغم إلى ما فوق السماء، وتدلّت أميمة كما لو كانت تغنيها لأول مرة، ربما شوق الصديق والمعلم، وربما الحنين إلى تلك الأيام، وختمت بـ «أصبح عندي الآن بندقية» هدية لفلسطين، مع أنّ كلّ بلاد العرب أصبحت فلسطيناً… من مصر إلى سورية مروراً بلبنان واليمن وليبيا وتونس…
أميمة الخليل في تلك الأمسية كانت عباءة عربية مطرّزة بأمومة الأرض، وبنعومة العروس، وبمشاكسة الأطفال، وهاني سبليني في توزيعه وقيادته أنعم من النغم، وكقلم الصحافي الناطق، وكصوت المجنون… هذه الأمسيات نحتاجها ولا بدّ منها، عابها كثرة الكلام بين أغنية وأخرى مما أبعدنا عن المتابعة، وترك الجمهور ليتصرّف على هواه من تصوير وكلام وخروج وتلفونات وما شابه، كان الأفضل عدم قطع الغناء، أو الإدلاء بخطاب قبل الأغنية، نحن أتينا لنسمع سحر الصوت وليس نبرات الخطابات بين أغنية وأخرى، ولا يهمّنا لمن سنهديها بقدر همّنا أن نعيد آذاننا إلى السمع النظيف، وأميمة صوت اختار الأداء النظيف!!