إيران: تقدّم الإقليمية

وليد زيتوني

كانت إيران عشية الثورة الإسلامية، تلعب دور شرطي الخليج. وهو دور محكوم بالضوابط الأميركية لتأمين منابع النفط وحراسة طرق الملاحة التجارية المتعلقة بالبترول ومشتقاته، مع الاحتفاظ باستقلال نسبي في ما يتعلق بسياستها الخارجية، على أن تبقى هذه الخطوط تحت الرعاية الأميركية وإلى حدّ ما مع السياسية البريطانية، السابقة تاريخياً على الوجود الأميركي السياسي والاقتصادي والعسكري. وربما كانت إيران الأكثر رعاية من حيث التسليح وحرية الحركة من جميع دول الخليج الأخرى.

إيران تمتلك من حيث القدرة وضعاً جغرافياً وجيوبوليتيكياً مميّزاً في موقعها ومساحتها وعدد سكانها، كما تمتلك مؤهلات ثقافية وحضارية مهمة جداً على مرّ التاريخ، وتمتلك الثروات الطبيعية الكبيرة، وبالتالي هي قادرة على التفاعل ونسج علاقات اقتصادية وسياسية وحتى أمنية مع دول الجوار القريب والبعيد. فإيران تقع في دائرة القوس الهامشي الأول لقلب العالم بحسب المفهوم الجيوبوليتيكي الغربي.

حين جاءت الثورة الإسلامية، أدركت الولايات المتحدة حجم الخسارة التي لحقت بها، فبدأت منذ اللحظة الأولى تدبّر المخططات الرامية لإضعافها وإخراجها من معادلة الصراع، وفي مرحلة ثانية تحييدها عبر تكبيلها بسلسلة من القيود الاقتصادية والحصار السياسي والأمني، بعدما فشلت حرب الخليج الأولى في الوصول إلى الأهداف الأميركية في استنزاف القدرات الاقتصادية، والابتزاز السياسي، بخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

عزمت إيران على استرداد دورها السياسي والأمني مع الحفاظ على استقلال قرارها السيادي على المستويات كافة في ظروف معقدة للغاية. فالولايات المتحدة أصبحت اللاعب الوحيد على الساحة العالمية جاعلة من الأمم المتحدة ومؤسساتها أدوات طيّعة في يد الإدارات الأميركية المتلاحقة. لجأت ايران في هذه الظروف إلى الاعتماد على قدراتها الذاتية بخاصة في مجال التصنيع وإعادة ترميم بنى الإنتاج من مخلفات عهد الشاه، ومدّت يدها إلى الدول المعارضة لسياسة الولايات المتحدة لاستجلاب التكنولوجيات المتوافرة، وعملت على تطويرها بما يتناسب مع حاجاتها المباشرة وضمن أولويات مدروسة جداً، حتى امتلكت القوة الذاتية التي تستطيع أن تحمي دبلوماسيتها وقراراتها السياسية الداخلية والخارجية.

حاولت إيران كدولة قومية كاملة أن تؤسّس سياستها الخارجية على ما يمكن تسميته بالأبعاد الثلاثة: البعد العالمي والبعد الإقليمي والبعد الإيديولوجي الديني كخادم أو رافعة للبعدين السابقين، مع التشديد على التوازن والتعادل بين هذه الأبعاد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المنافسة السياسية داخل إيران تنحسر بين المحافظين أو المتشدّدين بتركيزهم على البعد العالمي للسياسة الخارجية، بينما يتبنّى الإصلاحيون أو المعتدلون البعد الإقليمى كهدف لهذه السياسة.

جاء الملف النووي كرافعة لمكانة إيران وقدرتها محققاً إجماعاً داخلياً بين طرفي السلطة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التنافس على السلطة يقع تحت سقف توجهات المرشد الأعلى كضامن للدستور والثورة والعقيدة. وتمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح، فحين تكون الحاجة الوطنية تقضي برفع منسوب التشدّد يتولى المحافظون السلطة، والعكس هو صحيح. وربما الجميع يذكر أنّ هيئة المحافظة على الدستور التابعة للمرشد الأعلى قبلت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ترشيح ستة مرشحين متشدّدين بينما لم تقبل من الإصلاحيين إلا السيد روحاني. وهو ما أشّر في حينه إلى أنّ المرشد الأعلى يميل إلى وصول إصلاحي إلى سدة الرئاسة. ويمكننا الآن الاستنتاج أنّ طبخة النووي كانت قد نضجت في حينه، وبالتالي المفاوضات ستصل إلى نتائجها المرجوة.

لا شك في أنّ الملف النووي، وكأيّ اتفاق آخر يضع حدود المناورة للدول الموقعة عليه، ويرسم هوامش الحركة المتاحة. وعليه فإنّ الدلالة الأساسية، أنّ إيران استحصلت على تفويض بحركتها السياسية وربما الأمنية والعسكرية ضمن خطوط متفق عليها سلفاً في المنطقة، وهذه الخطوط لا يتضمّنها الاتفاق مباشرة. فإما أن تكون موجودة في ملاحق خاصة أو مؤكداً عليها في محاضر الاجتماعات.

إنّ الملف النووي هو جزء من نظام مناطقي إقليمي جديد سنرى نتائجه بشكل واضح في الأيام المقبلة. في العراق وفي اليمن أكثر جلاء. أما في سورية ولبنان فهناك تداخل مع الدور الروسي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى