فاضت الأرض خيراً… وغابت سُبل التصريف ثمار الوزّاني صارت زاداً للخنازير البرية… وفي البقاع لم تعلُ الصرخة بعد
عبير حمدان
حين وقف الرئيس نبيه بري عند مشارف فلسطين بعد التحرير، وفي منطقة الوزاني تحديداً، سأل أهل المنطقة عن البساتين المثقلة بالثمار في الجهة المقابلة، فأجابوه: هذه فلسطين المحتلة وتلك البساتين يستفيد منها العدو طبعاً. فقال لهم: متى سنرى أرضنا خضراء على غرار تلك المساحات»؟
عشر سنوات كانت كفيلة كي تنبت الأرض خيراً، وحين تجول في قرى الجنوب تدرك أنّ المساحة الوحيدة التي تنتج أطياب الفاكهة هي منطقة الوزاني حيث أنّ باقي القرى الجنوبية يعتمد أهلها المقيمون على زراعة التبغ، بينما اختار الجزء الأكبر من الجنوبيين التجارة أو الهجرة، لذلك يُحسب لمن غرس هذه البقعة من الأرض جهده وتعبه.
على طول الطريق المحاذي للشريط الشائك، نرى في الجانب الآخر حركة التنظيم في المعامل المواجهة وكيف يجري توضيب الفاكهة والخضار ليتمّ تصديرها إلى معظم دول العالم بإسم «دولة إسرائيل»، وفي ذلك استفزاز واضح لكلّ من آمن بمقدرته على المقاومة في المجالات كافة، فتمسّك الفلاح بزراعة أرضه فعل مقاوم، كما يقول أهل المنطقة ولكنهم يخشون أن يذهب جهدهم سدى رغم أنّ مجلس الوزراء وافق على مشروع مرسوم يقضي بإعطاء المؤسسة العامة العامة لتشجيع الاستثمارات «إيدال» سلفة خزينة بقيمة 21 مليار ليرة لدعم فرق كلفة تصدير الصادرات الزراعية والصناعية إلى الدول العربية لمدة 7 أشهر.
يكفي أن تسير بين البساتين في منطقة الوزاني لكي تدرك حجم الكارثة، حيث تتساقط ثمار الخوخ والدراق على الأرض، وإن بقيت على الأغصان فثقلها يكسرها، أما باقي المزروعات من الخضار فيقول أهل المنطقة إنها تُباع «بتراب المصاري»، لذلك يفضلون عدم بيعها فنراها أصبحت علفاً للأبقار. لا ينتظر المزارعون الكثير من القرارات والوعود الرسمية فخسارتهم أكبر من أي رقم مرصود والحلّ، من وجهة نظرهم، يتطلب خطة شاملة ومتكاملة لدعم القطاع الزراعي برمته وليس قراراً ظرفياً.
وفي هذا السياق، تؤكد مصادر وزارة الزراعة أنّ مشروع الدعم الذي تمّ التوقيع عليه أخيراً هو من أهم أولوياتها، لافتة إلى أنها تسعى إلى تنفيذه سريعاً من خلال التنسيق مع باقي الوزارت المعنية ومؤسّسة «إيدال» شرط أن تكون آلية التنفيذ منصفة للمزارع ومدروسة بعناية.
الوزّاني وأزمة الكساد
يستقبلنا محمد شيت من مزارعي الوزاني بكلّ ما يختزنه من مرارة، كمن يبحث عن متنفس للشكوى: «يمكنكم التجول بين البساتين لتروا حجم الكارثة، ومهما قلت لكم فكلّ ما سأقوله لا يصف الواقع، المشهد كفيل بالترجمة الفعلية لما نعانيه اليوم».
نرى الكثير من الإحباط في غرفة التوضيب، حيث يتمّ فرز الثمار لتحملها الشاحنات إلى الأسواق، فالإنتاج يتفوق على التصريف بشكل ملحوظ ومن هنا يتحول مسار السؤال الذي أخذنا إلى الوزاني لنكتشف أنّ المشكلة لا تكمن في غياب اليد العاملة، بسبب القرار الذي يمنع العمّال السوريين من العمل من دون وجود كفيل لهم، بل إنّ سبب معاناة المزارعين في تلك المنطقة هو عدم قدرتهم على تصريف منتجاتهم بعد إغلاق الطرق أمام النقل البري جراء الأزمة السورية، وهنا يقول شيت: «المشكلة في تصريف الإنتاج، طريق سورية مغلق أمام النقل البري، ونحن كمزارعين ليس لدينا أي متنفس آخر جميعنا يعلم أنّ سورية هي الرئة الوحيدة للنقل البري اللبناني لذلك نرى الآن الكساد طاغياً في مختلف القطاعات. وقطاع الزراعة أكثر القطاعات تضرّراً، أما في ما يتصل بالعمال السوريين فهذه المشكلة تخطيناها بعد أن تواصلنا مع الأمن اللبناني وصحّحنا أوضاع كلّ العاملين السوريين، لناحية الكفالة والإقامة، لذلك نتوجه بالشكر إلى اللواء عباس إبراهيم الذي كان متفهِّماً ومتعاوناً».
يرى شيت «أنّ المسؤولية تقع على عاتق الحكومة اللبنانية وليس على وزارة الزراعة وحدها»، لافتاً إلى «أنّ وزارة الزراعة لا يمكنها معالجة المشكلة بشكل منفرد فهي جزء من الحكومة اللبنانية التي من المفترض أن تُعالج الوضع كما يجب. السوق اللبنانية لا تستوعب كلّ هذا الرزق الفائض وقنوات التصدير مقفلة والجهات المعنية لم تحرك ساكناً حيال الأزمة، يمكنك أن تنزلي إلى البساتين لتشهدي بنفسك كيف أننا لم نقطف خيرات الموسم، تصوري أننا ندعو الجمعيات والمبرات والمؤسسات الخيرية لتأتي وتأخذ ما تريد من دون مقابل كي لا تبقى الثمار طعاماً للخنازير البرية، حتى أننا تواصلنا مع قيادة الجيش ودعيناها لتأخذ كمية كبيرة وانتظرنا الردّ ليأتي بعد أسبوعين بأنّ القيادة لا يمكنها استلام أي شيء من دون قرار حكومي».
وحول إمكانية دفع تعويض للمزارعين ومشروع دعم القطاع الزراعي الذي تمّ إقراره أخيراً، يؤكد شيت: «نحن لا نريد أن يدفعوا لنا المال وكلّ ما نريده هو تصريف إنتاجنا، أما في ما يتصل بالمشروع سننتظر تنفيذه ولو أتى متأخراً على أمل أن تكون آلية تنفيذه بحجم التوقعات المرجوة منه».
شيت يصرّ على إيصال شكواه ومظلوميته، حسب تعبيره، من خلال وسائل الإعلام، إلى كلّ الجهات المعنية، ويؤكد أنه يؤدي التزاماته كافة تجاه الدولة لذلك عليها أن تعامله بالمثل، مشيراً إلى «أنّ صرخة البقاع لم تعل بعد، لكنها ستكون قوية في الأيام المقبلة في حال لم تجد الدولة وسيلة ناجعة لتصريف المنتوجات».
ويخبرنا شيت عن مزارعين قاموا بإتلاف محاصيلهم من الخضار والفاكهة، وكيف يتحكم التجار الكبار بالسوق اللبنانية حيث أنه، على سبيل المثال لا الحصر، يقوم بتسليم الدراق بـ400 ليرة للكيلو ليصل إلى المستهلك بأكثر من 2000 ليرة، ومزارعو الخضار يبيعون قفص الخيار 17 كيلو بـ6000 ليرة ويصل إلى المستهلك بـ1000 أو 1500 ليرة للكيلو، مبرزاً الفواتير، وداعياً المعنيين إلى «تحمُّل مسؤولياتهم، بمن فيهم لجنة حماية المستهلك».
الخطة الشاملة هي الحل
يرى محمد الفرو رئيس الاتحاد الوطني للفلاحين اللبنانيين أنّ المشكلة جذورها قديمة ويجب أن تكون هناك خطة شاملة لتداركها، ويقول:»مشكلة تصدير الإنتاج قديمة جديدة وفي رأيي فإنّ الجهة المعنية بحلها هي وزارة الزراعة، كونها مسؤولة على القطاع الزراعي بالكامل، وهي الوحيدة التي تملك الصلاحية بشكل رسمي كي ترصد الأسواق الداخلية والخارجية، وعلى أساس هذا الرصد تضع الروزنامة الزراعية المنصفة والعادلة للمزارع والمستهلك في آن. للأسف في لبنان لا وجود لروزنامة زراعية فعلية، لذلك نرى تفاقماً مستمراً لمشاكل المزارعين».
لكن هل ما يشير إليه الفرو ينفي مسؤولية الآخرين، وخصوصاً أنّ وزارة الزراعة لا تنفصل عن باقي الوزارات ولا يسعها معالجة المشكلة في شكل فردي؟ يجيب:» أنا لا أنفي مسؤولية الآخرين وبالطبع على وزارة الاقتصاد ولجنة حماية المستهلك أن تعالجا الوضع، بالتنسيق مع وزارة الزراعة، ونحن نطالب منذ وقت طويل بمشروع استراتيجي وطني يتمثل بإنشاء تعاونية للمزارعين لاستيعاب منتوجاتهم وتخزينها، وإذا اقتضى الأمر تبريدها وإيجاد وسائل ناجعة لتصريفها داخلياً وخارجياً، وهكذا يتمّ تنظيم القطاع من ألفه إلى يائه. لكنّ هذه الخطة تحتاج إلى الجدية، فوجود مؤسسة من هذا النوع بتمويل عام وخاص يخدم المزارع والتاجر، حيث أنّ التاجر الذي لا يريد شراء الخضار والفاكهة من المزارع مباشرة يمكنه أن يقصد هذه المؤسسة ليبتاع ما يريد، وفي المقابل يتمكن المزارع من تصريف منتجاته من خلال بيعها للمؤسسة المفترضة وتحت إشراف الوزارة وبذلك يحمي نفسه من لعبة العرض والطلب».
ويضيف الفرو: «ما أشرت إليه تمّ وضع دراسة له منذ 1990 من قبل خبراء في هذا المجال لكنه لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن والسبب غياب الدولة عن مشاريع بهذا الحجم، هناك تقصير حقيقي من قطاعات الدولة كافة، في ما يتصل بالخدمات الإنمائية ورغم أنّ المزارع في بلدنا معطاء ويبحث عن كلّ جديد ليطوِّر عمله إلا أنه لا يحصد نتيجة مثمرة ولا يجد الدعم المرجو كي يبقى في أرضه. في الجنوب هناك حيازات صغيرة عمل عليها أهل الأرض وإذا تمّ دعمهم، ضمن خطة حقيقية ومدروسة، فتلك الحيازات قادرة على منح الاكتفاء الذاتي لمن يزرعها وللمنطقة كلها، ولكن إذا كانت الدولة قد أغلقت معمل الشمندر السكري في البقاع ورفعت الدعم عن هذه الزراعة، فماذا ننتظر منها حيال ما يعانيه المزارع الجنوبي اليوم»؟
وعن مشكلة تصريف الإنتاج يقول: «هذا العام المشكلة فعلية حيث أنّ التصدير البري دونه عقبات، إن لم نقل أنه مقفل بالكامل، والبحري دونه صعوبات ترتبط بآلية تفعليه إضافة إلى أنه بطيء نسبياً، والجوي تكلفته باهظة لذلك فإنّ الاتكال الآن هو على المشروع الأخير الذي أقرّه مجلس الوزارء لدعم فرق التصدير من خلال البحر على أمل أن يصبح واقعاً ويعوِّض جزءاً بسيطاً من خسائر المزارعين. المطلوب أن يتم دعم المصدِّر كي يأخذ الإنتاج بحيث يرتاح المزارع وتصبح الأسعار مقبولة، ومن جهتي لمست ارتياحاً لدى المزارعين بعد صدور القرار».
الوزارة تسعى إلى إرضاء الجميع
يرى رئيس مصلحة زراعة جبل لبنان المهندس عبود فريحة أنّ المشكلة القائمة «كانت غير متوقعة وتفوق قدرة الوزارة والدولة برمتها»، فيقول: «ما حصل مع المزارعين في منطقة الوزاني لم يكن متوقعاً. صحيح أنّ القطاع الزراعي يعاني من المشاكل ولكن صودف أنّ الموسم حان قطافه في الوقت الذي تمّ فيه إغلاق المتنفس البري الوحيد فبات تصريفه محالاً، لكنّ تصدير أي منتج لا يرتبط بوزارة الزراعة دون سواها، فوزارة الاقتصاد معينة أيضاً، كما وزارتي المال والأشغال وحتى وزارة الخارجية. والوزير شهيب يعمل على التنسيق بين كلّ هذه الوزارات مجتمعة كي يخرج بنتيجة ترضي الجميع وتنصف المزارع بالدرجة الأولى. نحن في وزارة الزراعة نسعى إلى تأمين وخلق الأسواق لتصريف الإنتاج ويجب أن تكون هذه الأسواق تحت رقابة وزارة الاقتصاد. ورغم الصعوبات التي يواجهها القطاع الزراعي نحرص من موقعنا على حماية الإنتاج اللبناني على قاعدة التبادل العادل بيننا وبين باقي الدول ولا نقبل أن يؤثر استيراد المنتجات الزراعية من دول الجوار على منتجاتنا».
ويضيف: «الوزارة تدعم المزارع من خلال الإرشاد الصحيح لتطوير عمله وفي طُرق التصدير والتوضيب، ضمن إمكانياتها، وتقدم لهم الأدوية مجاناً بالإضافة إلى الدورات التدريبية لتحسين مهاراتهم».
وفي ما يتصل بالقرار الأخير الذي قضى بدعم تصدير الإنتاج عبر النقل البحري، يشير فريحة إلى «أنّ هذا القرار نال إجماعاً من الأطراف السياسية كافة والكلّ متحمس ليتم تطبيقه ولكن قد تكون هناك عوائق مالية ولوجيستيه تفوق قدرة الوزارة وحدها إلا أننا نتكل على حكمة الوزير في هذا الصدد، لناحية التنسيق مع مؤسسة «إيدال» وباقي الوزارات، ونأمل أن يصبح واقعاً في أقرب وقت ممكن».
بانتظار التنفيذ
مما تقدم يبدو أنّ الجميع متفق على مدّ يد العون للمزارع، ولكن من سيعوِّض عليه خسارته التي وثّقناها بالصورة، وهل يكفي مشروع قيد التداول في لحظة آنية لتقويم خلل عمره من عمر القطاع الزراعي بعد أن تراكمت الخسائر، في ظلّ غياب مخطط فعلي كان من المطلوب، بحسب المزارعين، أن يتم تنفيذه منذ التسعينيات؟ وإلى حين نشر هذا التحقيق يبقى السؤال برسم الجهات المعنية.