اطمئنوا… ما زلنا نياماً!

آلاء ملحم ـ فلسطين

في ما مضى، كان التلفزيون مُجرد صندوق ذي لونين «أبيض وأسود»، مُبهجاً كألوان الطيّف على رغم أنه كان مقتصراً على مسلسل أردني بدويّ واحد على مدار السنة، ومسرحية كوميدية مصرية في الأعياد، وساعة برامج للأطفال على التلفزيون السوري، تُبكي، وتُضحك، تشبعك من فيض المشاعر والقيّم حد التخمة. ثمّ تنصرف إلى حياتك من دون أن تحاول عبثاً أن تكون شخصاً آخر غيرك، كنسخة مستوردةٍ مثلاً من سينما هوليوود في أقصى الغرب، أو بوليوود من أقصى الشرق، فذلك البدوي عربيٌّ أصيل فارسٌ والرجالُ من مسكته للفنجال تهابه، والعشق بيت شعرٍ في عيون الحبيب وإن تمادى بيتٌ آخر لشوق وصاله. أما تلك المسرحية فهي نسخةٌ ساخرة طبق الأصل من الواقع البائس تجعل المشاهد مع كلّ موقفٍ قاسٍ يواجهه يضحك على نفسه ويقتبس. أما الآن، فقد صار للتلفزيون أشكالاً، وألواناً، أسماء، وأحجاماً، دقّة وضوحٍ، وتقنيات، وتنافساً مبتذلاً في عرض البرامج والأفلام والمسلسلات من أجل الربح، وجهاز تحكمٍ عن بعد محتارٌ يتخبط بين قنواتٍ سمّيتموها ما أنزل الله بها من سلطان، نُزِعت قيم جميلة، وزُرِعت أخرى فاسدة. أُجِّرَت عقول مبدعة، وبيعت أخرى، استُنزفت طاقة الشباب، أحدهم يتابع مُباراة وكرشه يهتز مع كلّ صرخة على ميسي إذا ما تباطأ أو أضاع الهدف. واستُهلكت آلاف علب المناديل الورقية على مشاهد رومنسية. عُلِّم أصحاب رؤوس الأموال كيف يستغلون الناس برسالةٍ نصية فارغة فقط، ومُضغت اللغة العربية الفصحى بين فكيّ مذيعة ناعمة، أو مطربة عارية، أو مقدّم برامج مخارج حروفه ضائعة، وأُنشأ جيل كامل بلا طفولة، مُشبعٌ بالعنف والبذاءة، وتائه في الفضاء وعوالم لا تمتّ للإنسانية بِصلة. وحتى رمضان لم يسلم، إذ تحوّل إلى موسمٍ جيدٍ للتهجدِ في البيت، وكنماذج ساقطة «رامز واكل الجو» المأخوذة فكرته كالعادة من برنامج أجنبي، يُعكّر صفو السماء بتفاهته. ومسلسل آخر «تشيللو» المقتبس عن رواية أوروبية لكاتبٍ يهودي مُتصهين يحمل على عاتقه الترويج للدولة «الإسرائيلية» ككيانٍ ديمقراطي، ولا أستطيع أن أنسى عشق العكيد لليهودية في «باب الحارة» الجزء الذي بلغ المنتهى من الابتذال، والمتناقض تاريخياً وثقافياً مع الواقع الذي كان، والذي جعل من التاريخ السوري «ممسحة» لتمرير فكرة التعايش مع اليهودي في اللاوعي، ورسم صورة مثالية لوجوده وهو الذي لم يكن يُمثل في التاريخ السوري المعشار. إضافة إلى قصص الكنّة والحماة والزواج والحمل، وكأنه عرض تابع لـ«ناشونال جيوغرافيك» وعالم الحيوان، لا تاريخاً أصيلاً لثقافة عريقة ناضلت من أجل الحرية ضد الاستعمار الفرنسي حتى النصر. تُرى، من هو الفنان خاوي الثقافة؟ هل هو ذاته المُتابع من دون فكر؟ تُرى، هل تسعى تلك الشاشةُ إلى شيءٍ مُحدد؟ أم هي اختياراتنا التي تأخذنا؟ أم أن ما تمّ تسليط الضوء عليه من قضايا يُسيّرنا ويخلق داخلنا ثقافة فارغة جديدة من دون وعي منّا ولا إرادة، فنصبح غرباء عن أنفسنا؟ منسلخين عن ثقافتنا وذواتنا؟ ربّما، أو قد تكون سياسة العرض قد تغيّرت بعد الثورات الزائفة في العالم العربي. لكن المؤكد أن المسؤول عن إدارة مُشاهداتنا نحن «قطيع الجماهير»، ليس واحداً منّا، وليس على الحكومات أن تخشى من شعبٍ يُسقى من وحي السلطات، فاطمئنوا، ما زلنا نعاجاً، ما زلنا نياماً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى