شيطنة الحرق
فادي عبّود
هل في الواقع العقل اللبناني لم يتمكن بعد 25 عاماً من إيجاد حلول فاعلة لمشاكل النفايات والكهرباء في لبنان؟ علماً انه وبنظرة سريعة إلى القطاع الخاص نرى أنّ الإمكانيات موجودة ولا تنقصنا الخبرة للانطلاق نحو الحلول، ولكن يبدو أنّ انعدام الحلول مرتبط ارتباطاً مباشراً بلعبة المصالح، وقد بات الموضوع واضحاً وضوح الشمس، والأخطر، وقاحة المستفيدين وضربهم عرض الحائط أي اعتراض أو مساءلة، حتى باتت هناك قناعة لبنانية راسخة بأنّ المسؤول في لبنان يستطيع الهروب من المساءلة.
ففي وقت نواجه فيه أزمة حقيقية في معالجة موضوع النفايات في لبنان، المتأزمة سنة بعد أخرى، نشهد غياب أيّ خطة واقعية حتى الآن تجنّبنا كارثة بيئية حقيقية.
فيتمّ اقتراح الخطط وتُناقَش وبعدها توضع في الأدراج لنكتشف عاماً بعد عام أننا نراوح مكاننا ونكاثر المشكلة! وأصبح من الظاهر أنّ الخطط وُضعت لكي لا تُنفذ فهذه عن سابق تصوّر وتصميم مهندسة خصيصاً لاستحالة تنفيذها.
ويبدو أنه تمّ غسل دماغ اللبنانيين بما فيهم الجمعيات البيئية بأنّ الحرق هو إجراء غير مقبول، في حين أنّ دول العالم اعتمدته للوصول إلى معالجة حقيقية لموضوع النفايات. خصوصاً أن لبنان بمساحته الصغيرة ومياهه الجوفية لا يمكنه الاتكال على طريقة الطمر.
وعلى رغم أنّ الأميركيين مثلاً يعيشون جدلية بخصوص طريقة الحرق، إلا أن القناعة تزيد يوماً بعد يوم بأن لا مجال للاستغناء عن هذه الوسيلة، فأميركا تنتج 390 مليون طن من النفايات سنوياً، وتقوم الولايات المتحدة بتدوير وتسميد 94 مليون طن من هذه النفايات، أو ما يقارب الـ24 في المئة، بالتالي يتبقى كمية كبيرة من النفايات يجب إيجاد الحلول لها… ويبقى السؤال، ما الحلّ الأفضل بيئياً: طمرها أو حرقها للحصول على الطاقة؟
وقد صنّفت الوكالة الأميركية للبيئة وأكثر من 31 جمعية بيئية أميركية المحارق بأنها وسيلة مستدامة وأقلّ تلويثاً.
أدركت أوروبا الخضراء فوائد الحرق، ففي حين أنّ الولايات المتحدة بنت فقط 89 محرقاً لإنتاج الطاقة، تملك أوروبا حوالى 420 محرقاً أكثرها متركزة في أوروبا الشمالية، وهو الجزء الأكثر وعياً بيئياً في القارة الأوروبية.
وينشر معارضو طريقة الحرق بأنّ اعتمادها سيؤدّي إلى تقليل نسبة إعادة التدوير، وسيعرّض البيئة للمزيد من الأخطار.
بالطبع إعادة التدوير يجب أن تكون الحلّ الأول من أجل إزالة جميع المواد القابلة للتدوير والتسميد قبل التخلص من النفايات في المكبّ أو المحرق. وتبرهن التجربة الأوروبية أنّ اعتماد الحرق لم يقلّص نسب إعادة التدوير.
فالدول الأوروبية الخمس والتي تملك أعلى معدلات في التدوير: ألمانيا وهولندا والنمسا وبلجيكا والسويد، تعتمد أيضاً على استعمال للمحارق، إلى درجة أنهم نجحوا في الحدّ من استخدام مكبّ النفايات إلى أقلّ من 1 في المئة، حتى أنّ السويد تتنافس لاستيراد النفايات لاستعمالها في محارقها لإنتاج الطاقة.
بالتالي يبدو أنّ الخطة الأنجح لإدارة النفايات هي التدوير والحرق معاً، يبقى الأمر بيئياً أفضل للبنان من الطمر الذي يهدّد المياه الجوفية. وأغرب ما في سياسة التعامل مع النفايات في لبنان الرفض القاطع لوضع ضريبة طمر، علماً أن هذه الطريقة تعتمدها أغلب دول العالم وتؤدّي إلى زيادة التدوير للهروب من ضريبة الطمر!
والأمر الأهمّ أنّ عمليات الحرق قد تطوّرت تكنولوجياً ووصلت إلى تخفيف الانبعاثات الخطرة والمضرّة بالبيئة، وهذا لا تذكره الجمعيات المعارضة للمحارق. والجهود دائمة ومستمرّة لتطوير أنواع جديدة من المحارق التي تضمن التخلص الآمن من المخلفات مع تقليل انبعاثاتها… أو ما يطلق عليه اسم الترميد وهي عملية احتراق تستهدف التخلص حرارياً من المواد غير المرغوب فيها مثل الهيدروكربون، حيث لا يكون هناك تصاعد لغازات ضارة، على خلاف عملية الحرق التقليدية التي ينبعث منها العديد من ملوثات الهواء والمخلفات الصلبة. وأيضاً طرق حديثة تقضي بإضافة الكلس الرطب على النفايات المحترقة على درجة عالية لتقليص الانبعاثات.
وقد وقعت نيجيريا أول من أمس اتفاقية مع شركة كندية لتحويل نفاياتها إلى طاقة كهربائية لمعالجة أزمة الطاقة في البلاد، أما أوروبا فتسيطر اليوم عالمياً في سوق تحويل النفايات إلى طاقة في محاولة للحدّ من استخدام مكبات النفايات، وبدأ الاتحاد الأوروبي على نحو متزايد يطالب باستبدال استخدام مكبات النفايات من خلال إنشاء معامل لحرق النفايات من أجل الحصول على الطاقة.
تقليدياً، سيطر القطاع العام على هذا القطاع، ومع ذلك، فإنّ سيناريو السوق يتغيّر، حيث بدأ القطاع الخاص يحصل على حصص أكبر منه مما يوفر أيضاً استثمارات كبيرة الحجم.
ولا بدّ من التذكير بالمعارك حول سوكلين والكهرباء في حكومة الرئيس سعد الحريري الذي قال عبارته الشهيرة «خلي الزبالة تطمركم»، وأوقف بنداً لوزارة السياحة عقاباً على طرح الموضوع، أما في حكومة الرئيس ميقاتي فتمّ تشكيل لجنة برئاسة دولة الرئيس سمير مقبل، والتي كنت عضواً فيها، تمّ تأليفها «رفع عتب»، لأنّ مجلس الإنماء والإعمار لم يشرح لنا الموضوع بالشفافية المطلوبة وتمّ تضييع الموضوع وفرض عراقيل، والدليل الأوضح هو الشروط التعجيزية التي أقرّتها حيث اشترطت على من يريد الفوز بالمناقصة إيجاد مطامر، وهذا بحدّ ذاته مستحيل خصوصاً في بيروت وجبل لبنان. وكان واضحاً تحفظ وزراء تكتل التغيير والإصلاح على الحلول المقترحة.
تتنافس الدول لاستنباط الحلول أما في لبنان فما زلنا ننظر إلى خطط غير واقعية يسطرها مجلس الإنماء والإعمار، فيما نفاياتنا تتراكم من دون أفق على المستوى القريب. الغريب أننا وبعد تجربة عشرين عاماً من أداء مجلس الإنماء والإعمار لا زلنا نتكل عليه في إيجاد حلول مبتكرة لمشاكلنا، في حين انه علينا الخروج من قمقم المصالح لنرى كيف ابتدعت الدول حول العالم الفعالية اللازمة في هذه الأمور.
ويبقى الحلّ الأوحد هو فتح باب التنافس وتحرير قطاع النفايات في لبنان عبر السماح للمستثمرين بإقامة منشآت ضمن الشروط البيئية المطلوبة، للتدوير والحرق والجمع والكنس الخ، ويكون هناك حرية لكلّ بلدية أو اتحاد بلديات بالتعامل مع الشركة التي تراها مناسبة والتي تقدم أسعاراً تنافسية.