هل بدأت «المواجهة» بين بكين وواشنطن؟

إنعام خروبي

بعد أقلّ من عام على إعلان إنشاء الصين «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» ومقرّه بكين، والذي كان بمثابة ردّ فعل منها على رفض الولايات المتحدة إجراء إصلاحات في مؤسسات «بريتون وودز» والمتمثّلة أساساً بصندوق النقد والبنك الدوليين، أطلق زعماء دول «بريكس» التي تضمّ أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم، بنك التنمية الجديد الذي سيتخذ من شنغهاي مقرّاً له، وسيكون رأسماله المبدئي 50 مليار دولار تتقاسمها بالتساوي الدول الأعضاء، على أن تتمّ زيادة رأس المال إلى 100 مليار خلال العامين المقبلين.

وكانت الصين قد أعربت في وقت سابق عن إحباطها من بطء وتيرة الإصلاحات في المنظومة الاقتصادية العالمية وتداعيات ذلك على غير منطقة وخصوصاً آسيا، التي باتت تحتاج إلى 8 تريليون دولار من الاستثمارات في البنية التحتية لمواصلة التنمية الاقتصادية بين 2010 و2020، وهنا بدأت فكرة إنشاء مؤسسات مالية بديلة للمؤسسات الدولية تتبلور، فتمّ إنشاء «بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية» AIIB في تشرين الثاني 2014 بهدف تمويل المشاريع الإنمائية في مجالات مختلفة كالنقل والطاقة والاتصالات، الأمر الذي قد يسمح لبكين بلعب دور أكبر في التنمية الاقتصادية للمنطقة.

قد يكون الهدف المعلن والمباشر لإنشاء المؤسسات المُشار إليها هو تعزيز مشاركة الاقتصادات الناشئة، وخصوصاً دول مجموعة «بريكس» في النظام المالي العالمي، من خلال خلق بدائل منافسة لصندوق النقد والبنك الدوليين على نحو يجعل هذا النظام أكثر عدالة، من وجهة نظر الصين، إلا أنه لا يمكن فصله عن الطموح الصيني للتوسع الاقتصادي والاستثماري في المنطقة، وخصوصاً في مجال النفط والموارد، ففي عام 2014 استوردت الصين نحو 6.2 ملايين برميل من النفط يومياً، وجاء ما يقرب من 3.1 ملايين برميل من منطقة الشرق الأوسط، 989 ألف برميل من السعودية، و573 ألف برميل من العراق، و546 ألف برميل من إيران ، وعلى صعيد التبادل التجاري، بحيث يفتح «طريق الحرير» الصيني آفاقاً اقتصادية جديدة من خلال طريق جديد لتوزيع الموارد من الصين إلى أوروبا. ولا يغفل القيّمون على تأسيس بنك التنمية التابع لـ»بريكس» أن يسهم في تقليص الهيمنة الغربية بأشكالها المختلفة، لا سيما من بوابة الشروط القاسية التي يفرضها البنك الدولي على دائنيه. بالإضافة إلى تلك العوامل، ليس للصين إرث تاريخي وسياسي سلبي على الصعيد الدولي، لا سيما أنها قد عمدت خلال الأعوام الماضية إلى تأسيس علاقات طبيعية وقوية مع جميع دول الشرق الأوسط. وها هي اليوم توسّع من «إشعاعها الاقتصادي والاستثماري» باتجاه أستراليا، إضافة إلى أفريقيا ودول أميركا اللاتينية فنزويلا وكوبا ، وحتى تلك التي تُعتبر حليفاً تقليدياً لواشنطن كالمكسيك، وهذا ما قد يزيد من فرص نجاح البنك الجديد.

فعلى صعيد علاقاتها بدول الشرق الأوسط، تستورد «الجمهورية الشعبية» حوالى 12 في المئة من استهلاكها النفطي من السعودية، و11 في المئة من إيران، و13 في المئة من كلٍّ من العراق والكويت وعُمان مجتمعة. أما في ما يتعلق بعلاقاتها بأستراليا، التي وقعت اتفاقية عسكرية مع الولايات المتحدة في العام 2014 لمدة 25 سنة، فإنّ الصين قد وقعت معها اتفاقاً تاريخياً في العام نفسه يقضي بإقامة منطقة تجارة حرّة وتخفيف القيود على استثماراتها هناك.

ويلحظ خبراء ومتابعون توجهات جديدة في السياسة الخارجية الصينية من خلال متغيّرات عدة، أبرزها سعي المؤسسة الحاكمة في بكين إلى الاشتراك بفاعلية في المؤسسات متعدّدة الأطراف، مثل الأمم المتحدة، للانخراط في الشؤون الدولية، إلى جانب اضطلاعها بمبادرات إقليمية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي مثل «مبادرة طريق الحرير»، وبنوك التنمية المختلفة كـ»بنك التنمية» التابع لدول «بريكس» بما تعنيه من وسائط هامة لتعزيز النفوذ وزيادة التأثير الدولي.

وبينما ذهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الجلسة العامة للمنتدى الاقتصادي الدولي، الذي احتضنته مدينة سان بطرسبورغ في حزيران الماضي، إلى القول إنّ شراكة بلاده مع بلدان «بريكس» ودول أميركا اللاتينية تمتلك إمكانيات كبيرة للتجارة والشراكة الاقتصادية، معتبراً أنّ التفاعل النشط الحاصل مع مراكز النمو العالمي الجديدة لا يعني في أيّ حالٍ من الأحوال الذهاب نحو تقليص الحوار مع «الشركاء الغربيين»، يؤكد خبراء روس أنّ الولايات المتحدة ما زالت لا تدرك أنّ سياسة الإملاءات التي تمارسها على بعض الدول اقتربت من خط النهاية، وأنّ قدرتها على التحكّم بسياسات تلك الدول تتقلص يوماً بعد يوم.

وتُعتبر الولايات المتحدة الأميركية أول المتضرّرين من ولادة هذه المؤسسات المالية، وخصوصاً أنها مدعومة من مارد اقتصادي عالمي كالصين، إذ تفرض واشنطن من خلال سيطرتها على المؤسسات المالية الدولية التقليدية نفوذها على دول العالم والتأثير في سياساتها الداخلية والخارجية التصويت في مجلس الأمن ، وهي بذلك تخشى أن تبسط الصين بعد تحوّل «بنك التنمية» إلى «مانح دولي» نفوذها على الدول المقترضة وفق شروط أفضل للعديد من الدول النامية التي قد تجد بينها وبين الصين الكثير من القواسم المشتركة، سواء على مستوى الرؤية السياسية أو الاقتصادية.

على هذا الأساس، تخشى واشنطن أن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن مصالحها في العالم، ويتزعزع النظام العالمي الأحادي القطب الذي تتزعّمه، إذا ما كتب للطموح الصيني الاقتصادي الملمح والسياسي المضمون، النجاح. فأيّ أفق للعلاقة بين الجبارين الأميركي والصيني؟ وهل يندلع اشتباك بينهما، أم أنّ الاشتباك قد بدأ فعلاً بعد «فتوحات الصين» على «الجبهات الرأسمالية العالمية»؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى