حول ثقافة تعطيل العقل 2/1

نظام مارديني

إشارات استفهام عديدة طرحتها الأزمات التي يتعرض لها الهلال السوري الخصيب في هذه المرحلة، ولا يُطرح سؤال الاستفهام عن أي من أزمات هذه المنطقة إلا وينتهي بعلامة استفهام أخرى حول مآل الثقافة والمثقفين في خِضمّ هذه الأزمات التي لا تتزامن فقط مع حالات سلبية أو ظواهر مستهجنة أو حالات مرفوضة، بل ربما تفرز مناطق غير مكتشفة في ثنايا هذا المجتمع «الهلالي» وزوايا المواقف والمبادرات التي تنتج منها، وتلك التي تُسجّل منعطفات في حياة المجتمع وتترسخ في ذاكرته وتترك آثارها على الأجيال الحالية والمستقبلية إن كانت سلباً أو إيجاباً. المثقفون الذين يقع عليهم الدور المهم في أية حالة وأزمة يعيشها وطنهم، يكونون دائماً في واجهة الأحداث الإعلامية والكتابات الإبداعية والتحليلية والفكرية، حتى بات المواطن يؤمن بأن مهمة المثقفين هي أن يعزفوا أنشودة الأرض التي ينتمون إليها من دون أن يجزّأ حبهم إلى مقاطعات مستهجنة يسهل التأشير عليها من دون جهد كبير . في هذا الإطار، غالباً ما يطرح السؤال عن علاقة المثقف بالمجتمع. المجتمع كما لو كان الوعاء المفتوح لكل ما يودع فيه من أفكار وآراء، بخاصة أن العلاقة بين المثقف والمجتمع علاقة جدلية. والأدق القول إنّ المجتمع والبنية الاجتماعية التي ينطوي عليها تصنع مثقفيه، وليس العكس. فالمثقف لا يأتي من لا شيء وإنّما يسبح في فضاء ومحيط وحاضنة محددة ومعروفة. ويصبح مؤثراً إذا ما وجد نفسه/ نفسها في ذلك الفضاء والمحيط والحاضنة. فيما عدا ذلك فإنّه يكاد لا يكون موجوداً. خاب ظنّ الكثير من المثقفين ممن عوّلوا على التغيير بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003. ما حصل أنْ استُبدلت البنية السياسية والاجتماعية السائدة آنذاك ببنية أخرى مختلفة أريد لها أنْ تكون دينية وعرقية انعزالية إنّما باتباع الاستراتيجيات نفسها، استراتيجيات التصور الأحادي الذي يقوم على فكرة أنّ هناك طريقاً واحدة نحو الحقيقة لا غير… بنية لا تفهم إلا منطقها، بل ولا تستسيغ إلا مفرداتها اللفظية واللغوية، ما صعّب المهمة على المثقف المستقل . ساهم هذا الوضع إلى جانب الأوضاع الملغّمة والمتفجرة التي قادها الإرهاب بكل أشكاله ومكوناته وارتباطاته المحلية والخارجية في تعقيد العلاقة بين المثقف والمجتمع. فقد أصاب كثيراً من المثقفين اليأس، وأدى بالعديد منهم إلى الانسحاب، حتى صار سهلاً اتهامه بـ«الغائب» أو «المُغيب». من بين أهم السمات المفترضة في المثقف بشكل عام أن يكون صاحب رؤية وموقف، إلا أن المثقف في الهلال السوري الخصيب ظهر بالإجمال فاقداً للاتزان، حماسياً أكثر مما تتطلبه الروية وإمعان العقل. وهنا يفقد المثقف البصيرة حينما لا يدرك تعقيدات الأشياء. فتراه حاسماً، على رغم معرفته السطحية بخبايا الأمور ويبني استنتاجاته على معرفته هذه فيتفوه بما لا يعلم. يحيلنا هذا على المواقف المتلونة التي يتخذها المثقف في هذه المنطقة، ولعل نموذج عزمي بشارة، هو صورة من وعاظ السلاطين يبيع الكلام ويتلون: شيوعياً تارة، قومياً تارة، إسلامياً تارة، وظيفته أن يُجمّل صورة رب العمل. هو فاقع بطابعه العام في هذا الاتجاه من مواقف تتبع المصلحة الشخصية للمثقف وليس الرؤية المفتقدة أو المصلحة العامة. فحيناً تراه يتغنى بالعلمانية والحرية وحيناً أخرى بالمرجعية الدينية، ونموذجنا هنا كذلك صادق جلال العظم، كيف تحول هذا المثقف من صاحب «نقد الفكر الديني» إلى طائفي سني؟ كان افتتاح العظم لـ «منتدى برلين للمسلمين التقدميين» بنسخته الثامنة الذي نظمته مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية، في 19 نيسان 2013، الجواب على ذلك التساؤل، وقد حمل المنتدى في دورته هذه عنوان: صحوة الإسلام السياسي بعد «الربيع العربي»: التطورات – التحديات الآفاق ، حيث تبين أن العظم تخلى عن نهجه الذي كان يبنيه على أساس التحليل الاقتصادي والطبقي للصراع ذات يوم. العظم يقول في معرض نفيه وجود حرب أهلية في سورية، وهي بالتأكيد ليس كذلك، لكن تبريره يبلور صورة الانحطاط الذي بلغه نكوص مثقّفي الموضة: «على عكس لبنان، الفاعل الرئيسي في سورية هو النظام نفسه مسخراً الدولة وأجهزتها وموظفيها ومواردها لحربه الشعواء على الشعب السوري عموماً وعلى أكثرية العددية السنية تحديداً، هذه ليست حرباً أهلية بأي معنى من المعاني الجدية للعبارة. كما أن تطرف النظام في عسكرته وتدميره ومذابحه لا تقاس على الإطلاق بالتطرف الذي كثيراً ما ينسب إلى الثورة نفسها أو لبعض مكوناتها، علماً بأن التطرف يستجر التطرف والبادئ أظلم». وتمكن ملاحظة أن العظم لم يحدد الأكثرية هنا بالطائفة السنية فحسب، إنما برر أيضاً تطرُّف «مكونات الثورة» التي تذبح بالمعنى الحرفي للكلمة على الهوية الطائفية ، متحدثًا هنا بخطاب لا يمتّ للعقلانية المفترضة به كـ«مفكر» بأيّ صِلة. فهل سيقول العظم قريباً إن الدولة الإسلامية السُّنية الإخوانية هي صيغة مهذبة للدولة المدنية؟ أم سيلتحق برفيقه اليساري رياض الترك الذي خلع عباءة الفكر الماركسي ولبس عباءة الدين حتى أنه أصبح من المداومين على التعبد والصلاة في مساجد حمص؟ هكذا انتقل الكثير من المثقفين العلمانيين اليساريين من ضفة إلى أخرى لسبب بسيط، وهو ذلك الخلل في تفكيرهم العلماني الذي جاء كرد فعل على بنية البيئة الحاضنة من جهة، وجهات التمويل من جهة أخرى. وبهذه الرؤية فإن عزلة المثقف وتلذّذه بدور المعارض الدائم وغير المنتج، بدت عزلة تاريخية أولاً، وعزلة طرد ثانياً، وعزلة تعكس الفقر الثقافي لأدوات المواجهة ثالثاً. لقد سقطت شريحة كبيرة من مجتمعنا في الوهم التقليدي القائل بأن تغيير الوجوه مقدمة كافية لإجراء الإصلاحات وإحداث تغيير سياسي مهم، وحتى هذا الوهم لم تتقنه القوى الثقافية المؤيدة للتغيير بمساعدة الخارج حتى لو كان هذا الخارج يعيش عزلة تاريخية عن الراهن والمستقبل، إذ بقيت معظم وجوه الثقافة ومريديها يتنقلون من فندق إلى آخر ويرقصون رقصة الدراويش حول راعيهم السفير الأميركي السابق أو رعاتهم السعودية وقطر وتركيا . هكذا ازدحم حراك ما يسمى بـ «الربيع العربي» بمفارقات «تراجيكوميدية»، منها أن الذين دعوا إليها وأشعلوا شرارتها وقاموا بها من المفترض أنهم كانوا من اليساريين والليبراليين والعلمانيين، لكن تبيّن أنهم مجرد واجهة لجماعات الإسلام المحمدي المتطرف، ما يفتح الصراع الفكري على مديات أوسع يمكن أن نحددها بعنوانين: إما إطلاق حركة العقل في مجتمعنا أو الاستكانة للنصوص الدينية الجامدة التي تلغي هذا العقل؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى