الاتفاق النووي.. إيران والعرب و«إسرائيل»
عمر شحادة
عصفوران بحجر واحد، تمكن المفاوض الإيراني من اصطيادهما في مفاوضاته مع «السداسية الدولية»، أو ما يمكن تسميته بالمجتمع الدولي الفعلي والمقرر، فقد تمكنت إيران من دخول النادي الدولي النووي وحافظت على القاعدة العلمية والتكنولوجية النووية وأنقذتها من مخططات التدمير والاقتلاع، فضلاً عن رفع الحصار الاقتصادي في سياق انتزاعها اعترافاً دولياً شاملاً بشرعية نظامها السياسي، الذي أقامته في أعقاب الثورة الإسلامية في كانون الثاني عام 1979، التي أطاحت بآخر ملوك إيران محمد رضا بهلوي، الذي عرف بصداقته القوية مع «إسرائيل» وبتبعيته الشديدة للولايات المتحدة.
وهي ثورة حظيت عن جدارة، بعداء الإدارات المتتالية للولايات المتحدة الأميركية، التي لم تترك وسيلة منذ ما يناهز أربعة عقود إلا واستخدمتها بهدف تقويضها ونظامها السياسي، الذي لم يشغله شاغل عن إرساء دعائم نظامه الامني والمادي والمعنوي وعن ترسيخ وحدته ونفوذه الإقليمي والدولي، ما أحبط مخططات أعدائه المستميتة وبخاصة الإمبريالية الأميركية، التي تيقّنت بعد تجربة غزوها المريرة للعراق في آذار 2003 وبعد هزيمة الجيش والكيان «الإسرائيلي» في حربه على لبنان في تموز 2006 للقضاء على حزب الله من عقم أية مقامرة عسكرية «إسرائيلية» أو أميركية جديدة، ومن غباء وخطورة مجاراة مطالب حكام تل أبيب، الذين درجوا على توظيف الغرب الاستعماري وعولمته وليبراليته المتوحشة واستغلال «الأغيار» في خدمة مشروعهم الصهيوني.
لم ينه الاتفاق النووي، الصراع الأميركي ـ الإيراني ولن ينهيه طالما استمرت إيران في عدائها لـ«بيت العنكبوت»، إنما اضطرت الإدارة الأميركية للمساومة واللجوء إلى خوض صراعها بوسائل أمنية واقتصادية وثقافية جديدة لا تقل خطورة عن سابقاتها، أو تقلل من دعم التفوق النوعي العسكري لـ«إسرائيل»، وذلك لتأخير ولجم وتجويف المشروع النووي بالتمهيد لانتصار الدولة على الثورة في إيران. مساومة لم يتبق بعدها أمام رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كثير من الوقت «للّعب بالبيضة والحجر»، قبل أن يلتحق ببقية قطيع الراعي الأميركي، الذي يعلم علم اليقين ويرى بأمّ عينه، بأن ما سمي بنظام «بوش» العالمي الجديد وعالم القطب الأوحد في طريقه إلى الزوال.
لقد أثبت المفاوض الإيراني انتهاء صلاحية وبطلان نظرية الذّنَب الذي يوجّه الرأس، فعلى عكسها تماماً، أدارت الرئاسة الأميركية ظهرها على نحو صريح لدولة الاحتلال وجلَبة حكومة نتنياهو بخصوص الاتفاق، نزولاً عند المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية، في لحظة باتت فيها هذه المصالح مهددة ومعرضة للخطر، إذا استمرت الإدارة الأميركية في استنساخ سياسة دولة الاحتلال، الرامية للحفاظ على مكانتها بأي ثمن، بوصفها الدولة الإقليمية العظمى الصاعدة، في ظل الاحتراب والتناحر العربي والمذهبي من جهة والنبذ والحصار الدولي الخانق للجمهورية الإيرانية من جهة أخرى.
إنه درس تاريخي ينبغي أن يتعظ منه العرب قبل غيرهم، ولعلّه من الواجب أن نتعلم بتجربتنا الذاتية المعمّدة بالنار والدمار والمخضبة بالدم والدموع، الاعتماد والرهان على بناء واحترام الذات والكرامة الوطنية والقومية وتعديل موازين القوى قبل كل شيء، وترسيخ الاستقلال الوطني والقواسم المشتركة والأخوة بين الشعوب العربية والإسلامية والمواطنين العرب وأشقائهم من المنابت والأصول القومية كافة، وتحريم وتجريم الخلط بين العدو والصديق.
وهو هدف يتعذر بلوغه من دون إدراك صارم وقرار جازم، من القوى والدول الوطنية الحية والرائدة في عالمنا العربي وفي المقدمة جمهورية مصر العربية، بولوج درب الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، والانخراط في بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية بوصفها قانون التطور الحالي الممكن والإجباري للبلدان العربية، وفي المقاومة لتحرير الأراضي العربية المحتلة ونصرة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية ومعركة العرب المركزية ورافعة شأنهم وجامعة شملهم، وانتصارها شرط تحررهم وانعتاقهم الاجتماعي والقومي والإنساني من براثن الثالوث الإمبريالي الصهيوني الرجعي، وشرط بناء وترسيخ دور قيادي لهم في إقليم جديد، وكوْن متعدد الأقطاب يرفض التفرد والإقصاء والإرهاب والتكفير، ويتسم بقدر أكبر من العدالة والديمقراطية، يسطع ضوءه وتلوح بشائره من كوبا وموسكو وبكين، في مدار المجموعة الجديدة لدول البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، التي يجب أن لا نتخلف عن نيل عضويتها.