سؤال حامض بطعم حنظلة
د. عادل سماره
أيها الحيّ والقدّيس والمثقّف المشتبك حتى الشهادة. كيف لا؟ ألست أنت الذي كتب عن حنظلة: «هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إنني قد أستمرّ به بعد موتي».
يا للهول، ما أمَرّ الذكرى وما أشدّ ما تستدعيه من وجع! عبارتك هذه كُتبت وطُبع البوستر في الكويت. يا لَهف فلسطين عليك؟ الكويت التي قرّرت طردك كي تُقتل في لندن، كما لو كُنت تُسيَّر بالـ«ريموت كونترول» إلى حيث تلقى ما لقيت. والكويت التي سال من رحمها آلاف الإرهابيين الذين أُعيد تصنيعهم في أميركا ليذبحوا سورية، أحدهم يتفاخر بأنه جنّد ألفين كدفعة أولى من 12 ألف إرهابي، وحاكم الكويت بعد حديثه بأيام، يصلّي في المسجد الذي قَتل فيه الإرهابي السعوديّ عشرات الأبرياء. لم أتوقع أن أكتب في الذكرى الثامنة والعشرين لاغتيالك يا ناجي العلي، اغتيالك برصاص التطبيع ومال النفط وإيديولوجيا الصهيونية والقطرية ودويلة معلّقة في هواء فاسد، فأيّ تعاون هو الأخطر؟ انتظرت يوم الأربعاء 22 تموز2015 حتى الخامسة عصراً كي يتطابق الوقت واللحظة مع اللحظة نفسها يوم الأربعاء 22 تموز 1987، حين اتصلت بي ليال ابنة ناجي العلي الكبرى وقالت: «عمّو، قتلوا أبي». وحصل ما كنت أتوقعه، لا بل ما كان هو أكيداً منه. كان حديثنا الأخير يوم الاثنين 20 تموز 1987، حيث ذهبت إلى منزل الأسرة في ضاحية ويمبلدون من لندن، لأخذ ابني يزن إلى المدرسة. الجميع نيام سوى ناجي، أخذني بهدوء إلى المطبخ وصنع قهوة مُرّة، وخلال احتساء القهوة قال: «عادل، هذه المرَّة سيقتلونني. اتصل بي فلان، وقال لي إما أن تمدح أو ستُقتل». وفعلاً قُتل ناجي العلي…
وكما علمت، فإنّ القاتل المباشر لا يزال حياً. كيف لا وهو ليس سوى أداة لفريق من الأنظمة والقيادات المخططة والمستفيدة بما فيها الكيان الصهيوني. ربما يسمعني الآن ناجي العلي، فيبتسم ويقول: «يا راجل أسمعك صدقني». لست محظوظاً بأنك لا تزال حياً أو شبه حي، وقد صار لا مكان لنا في أرضنا. هو يعرف إذن أنّ المذبحة قائمة على بوابات بطول العالم العربي وعرضه. الوطن بأسره قيد الاغتيال كما أنت. لماذا فتحت الباب إذن؟ ألم يكن في وسعك صدّهم؟ بل لم يكن في وسعنا صدّهم حينها. ما أكثر قاتليك! بل إنّ أكثرهم «براءة حدَّ البهيمية» هو من أطلق الرصاصة عليك. هم شعراء ومثقفون وساسة ورأسماليون… هل تعلم كيف مات أحدهم؟ بحسب تشخيص أطباء غربيين بأنه مات لكثرة ما في تجاويف قلبه من شظايا زجاجات الويسكي، التي كان لثمَنها أن يعيد بناء مخيم نهر البارد الذي ذبحه إرهابيّو «فتح الإسلام»، أو مخيم اليرموك الذي يذبحه «داعش» ومنه فلسطينيون، أو قرى سريانية وأيزيدية عدة في سورية والعراق، فما بالك بصنعاء وعدن؟ وبعضهم قتله شركاؤه كما المافيا. وهكذا… ما إن تمكنوا منك حتى صار الوطن بأسره مكثَّفاً في تجربتك، من حيث الاغتيال البشري واغتيال اللغة. لك أن تعرف أنّ اللغة مستباحة كما الشهداء. كيف لا؟! وقد صار الوصف الطيب لباساً أو كفناً للعملاء. المطبّعون شهداء، وأعضاء «الكنيست» من الفلسطينيين يُرفعون بدل الخازوق ليُزعم أنهم مشاريع «شهادة»، يا للبغيِّ حين لا يخجل! لو كان لي أن أرفض حروف العربية وأنا أكتب عن ناجي لفعلت. هذه اللغة عشيقتي الأولى والأخيرة، لكنها على جمالها، وربما بسبب جمالها هي… خائنة. هي خائنة لأنّ حروفها تمارس الخيانة، فبِها تُكتب أسطر لا إحصاء لعديدها مدحاً للتطبيع، وتفخيماً لأنظمة في أفضل حالاتها خائنة، ولمثقفين يروّجون لـ«عظمة» الكيان الصهيوني الأشكنازي. اللغة المغتصَبة هذه تحوّلت إلى حروف بلا معنى وبلا محمول. ولكن، لا بدَّ من تحرير اللغة تماماً كما هو تحرير الوطن، بل كما هو تحرير الطبقات الشعبية العربية من وباء التطبيع والطائفية والقطرية والمذهبية. لست ممّن ينسبون لناجي العلي نبوّة ما، ولكن من ينظر إلى أعماله يجد كلّ هذا. مساء الخير ناجي، ربما لم أخبرك أنّ استخبارات العدو البريطاني التي شاركت في دفن اغتيالك كتبت إلى أمّ خالد وداد نصر : «استعرضنا 40 ألف لوحة… لم نجد ما يبرّر الاغتيال»، هذا ما كتبته شرطة دولة لم يمرّ مثيلاً لها في ذبح التاريخ سوى رضيعتها الولايات المتحدة. ولما قرّرتا أخذ غفوة عن الأمم جندتا أنظمة وقوى الدين السياسي لتقتل حتى تُقتل. إنّ بريطانيا نفسها التي استقبلت وشاركت في تغطية اغتيالك هي التي تحوي الكثير من أوغاد المرحلة، صحفاً وصحافيين، ومثقفين إلخ… وهي نفسها التي رَعَت ولا تزال من اغتالوا في العالم العربي كلّاً من الوعي والبشر والحجر، واقتربوا من اغتيال التاريخ.
في بريطانيا، كانت ولا تزال حضانة الطابور السادس الثقافي الذي مهّد لقتلك وامتدح قاتليك وقبض منهم. لقد كان ريع النفط القطري والسعودي والكويتي في الذراع التي اغتالتك. وها هي اليوم تغتال سورية. قد يكون هذا الكلام قصيداً، لكنه أعمق، وقد يكون بيراع لكنه يحزُّ حزَّ السيف. لقد أعددتُ أنا القهوة الآن، مُرّة كما سقيتني، لكنني أحتسيها وحدي. مع كلّ التحية إلى أم خالد وخالد وليال وجودي وأسامة، فهم وطنك الصغير.