هل تخلّت تركيا عن أولوية إسقاط الأسد؟

عامر نعيم الياس

الاتفاق النووي مع إيران أرّخ لبداية سلسلة من التحوّلات في المشهد السياسي العام في المنطقة، خصوصاً بالنسبة إلى القوى الإقليمية التي دخل إلى ناديها وافدٌ قويٌ جديد معترف به دولياً وأممياً، خارجاً من قطيعة كانت تضعه في خانة الدول المارقة، من دون أن يعني ذلك أن هذا الوافد لم يكن يساهم بشكل مباشر في اللعبة الإقليمية، لكن الأساس يبقى نهاية القطيعة التي شرّعت حصة في الكعكة الإقليمية لهذا الوافد الجديد. تركيا منذ بداية الحرب على سورية حافظت على مقاربة مختلفة لسياستها الإيرانية على عكس دول الخليج وغيرها من الدول العربية. فأنقرة حَسبت منذ البداية خطَّ العودة. هي لم تقطع اتصالاتها مع الدولة الإيرانية، إنما عمّقت تعاونها الاقتصادي مع طهران، وحافظت على مستوى معين من التنسيق السياسي المباشر الملتزم في غالبية الأحيان الخطوط الحمراء المشتركة بين أنقرة وطهران. فيما تلك الأخيرة مارست أقصى درجات ضبط النفس في إدارة التجاوزات التركية التي مسّت المصالح الإيرانية مباشرةً في سورية، وحاولت إلى أقصى الحدود الحفاظ على السياق العام للعلاقة مع حكومة «العدالة والتنمية» وعدم إخراج أي خلاف بين الدولتين إلى العلن.

روسيا هي الأخرى طوّرت علاقاتها الاقتصادية مع حكومة «العدالة والتنمية»، راعت المصالح التركية في ما يخص خطوط نقل الغاز، وحافظت على مستوى عالٍ من التنسيق والتواصل مع الرئيس التركي أردوغان. محاولةً احتواء طموحاته الإقليمية وعدم النزوع إلى التصعيد المباشر مع تركيا على أمل استدراج مواقف أكثر ليونة من حكومة أنقرة في ما يخص بؤر التوتر في المنطقة وعلى رأسها الملف السوري وملف الوجود التركماني في بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق.

لم تغيّر تركيا من سياستها بشكل ملحوظ في ضوء العوامل السابقة. استجابت حكومة «العدلة والتنمية» جزئياً لبعض المطالب الإيرانية والروسية. لكنها حافظت على سياستها السورية. فتركيا «العدالة والتنمية» تريد إسقاط الدولة السورية وتشترط للمشاركة في التحالف الدولي الأميركي على الإرهاب أن تُنشَأ منطقة عازلة وأن تحارب المجموعات المسلّحة المرتبطة بالغرب وبها كلاً من الدولة السورية وتنظيم «داعش» بالتوازي. جملة شروطٍ كانت تعطّل أي محاولة سواء من إيران أو من روسيا أو حتى من الولايات المتّحدة الأميركية لترشيد دور أنقرة الإخوانية في سورية على وجه الخصوص، لكن من دون جدوى. المفاجئ في الأمر واقتراناً بالتطورات في الملف النووي الإيراني، كان التغيّر الأخير الملحوظ في موقف أنقرة. إذ وافقت على فتح قاعدة إنجرليك الجوية التركية لقوات التحالف في الحرب على «داعش» وفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية. كما أن البيت الأبيض أعلن اتفاق الرئيسين التركي والأميركي في اتصال هاتفي على «العمل معاً لوقف تدفق المقاتلين الأجانب وتأمين حدود تركيا مع سورية». كل ذلك يكتسب مصداقية استثنائية إذا ما عطفناه على استئناف تحرّك حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا وقتله شرطيين تركيين ردّاً على الانفجار الذي استهدف بلدة سروج ذات الغالبية الكردية، والاشتباكات على الحدود السورية التركية بين تنظيم «داعش» الإرهابي والجيش التركي، فضلاً عن نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة التي أرغمت حزب «العدالة والتنمية» على تشكيل حكومة ائتلافية مع واحدٍ من أحزاب ثلاثة تجتمع جميعها على رفض سياسة أردوغان في سورية والعداء المباشر مع تنظيم «داعش». فهل أجبرت التطوّرات أردوغان على تغيير سياسته؟ وهل تغيّرت الأولويات التركية في سورية لتضع «داعش» أولاً قبل الحديث عن المناطق العازلة ومستقبل «النظام» في سورية؟

مما لا شك فيه أن ما يجري في تركيا يعكس تغييراً واضحاً يفرز ثابتين:

ـ الأول، أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يحاول وبعد جملة التطورات السابقة بدءاً من الانتخابات التركية مروراً بالنووي الإيراني وليس انتهاءً بالتطورات الميدانية في الداخل التركي، أن يكون أكثر مرونة في مقاربة الحرب الأميركية على الإرهاب. لذلك نجد أن الرئيس التركي أسقط كافة الشروط السابقة للمساهمة في تحالف أوباما على «داعش»، وفتح قاعدة إنجرليك الجوّية من دون أيّ إشارة إلى مصير الشروط التركية في سورية. إذ يبدو أن الرئيس التركي أضحى أكثر انضباطاً في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة عموماً وفي سورية خصوصاً.

ـ الثاني، التطورات التركية وضعت أردوغان في مواجهة الأكراد و«داعش» والطبقة السياسية التركية التي فازت بالانتخابات البرلمانية الأخيرة. ويبدو أن الأخير بدأ يرى حتمية إجراء تغييرات في سياسته الخارجية التي تشكّل مثار إجماع القيادة الحزبية المعارضة لـ«العدالة والتنمية»، من دون أن نغفل هنا موقف رئاسة أركان الجيش التركي المعارض أيَّ تدخل عسكري مباشر في سورية وفقاً للطرح الأردوغاني في حزيران الماضي. عوامل من شأنها أن تفسّر ما نشره الزميل محمد بلوط في «السفير» اللبنانية حول «زيارة جنرال تركي إلى دمشق في الثالث من الشهر الجاري لاستطلاع إمكانية التعاون ضد داعش والتقدم من اقتراح الرئيس بوتين».

«داعش» نقطة الفصل والوصل والهجوم والانكفاء في الحرب على سورية. وربما تؤمن أولوية الحرب عليها مخارج مرضية للجميع وتؤسس لقواعد اشتباك جديدة في سورية. يبدو أن التركي بدأها بفتح قاعدة إنجرليك والمواجهة المباشرة مع «داعش» على الحدود مع سورية.

كاتب ومترجم سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى