متى الخلاص من النفايات السياسية؟
د. عصام نعمان
أول حقوق الإنسان الحقُّ بالحياة. جوهر الحق بالحياة هو الحق ببيئة نظيفة، ذلك أن حق الحياة يتطلّب الحق بالماء والهواء والنور والغذاء، وهذه كلها موجودة أو يُفترض ان تكون موجودة في البيئة، وعندما تفسد البيئة تفسد عناصر الحياة بالتالي الحياة نفسها.
البيئة هي الأرض او «أمنا الأرض» كما يحلو للبابا فرنسيس أن يسمّيها، سيّما أنه عيّن في خطبةٍ له اخيراً في الباراغوي «ثلاثة حقوق مقدسة هي الحق في العمل والمنزل والأرض».
الأرض، بالتالي البيئة، منتهكة في كل أنحاء العالم بسبب نفايات الصناعة والتجارة والمنازل، أي بسبب البشر أنفسهم الذين يصنعون ويتاجرون ويسكنون المنازل و«ينتجون» منها نفايات يصدّرونها إلى البيئة. الإغراق العشوائي للبيئة بالنفايات على أنواعها أدى إلى تلويثها بل إلى إفسادها على نحوٍ أصبحت معه في كثير من البلدان غير صالحة لحياة صحيّة.
لعل لبنان يأتي في طليعة البلدان التي أفسد فيها البشر بيئتهم، والمقصود بالبشر هنا ليس المواطنين بل فقط المسؤولين، سواء أعضاء المجالس البلدية أو أعضاء المجالس الوزارية المتعاقبين. هؤلاء لم يمارسوا الحكم بما هو فن استباق الحاجات والمطالب والبت بها بل مارسوه كسلطة مولّدة للمتعة او للمنفعة او لكليهما.
نجم عن قصور المسؤولين وتقصيرهم أن سكان محافطتي بيروت وجبل لبنان، وهم غالبية اللبنانيين، ما عاد في وسعهم منذ أكثر من عشرة أيام التخلص من نفاياتهم وقاذوراتهم، فدفعوا بها إلى شوارع مدنهم وبلداتهم وقراهم لتتراكم فيها وتتصاعد منها أسوأ الروائح وتتيح للمشاة والعابرين «أروع» المناظر. لعلّ لطغيان النفايات في شوارع المدن والقرى ظاهرة إيجابية وحيدة هي انفجار غضبة الناس في وجه المسؤولين عن الكارثة وتوافقهم على أخذ الأمور بأيديهم بمنعهم شاحنات القاذورات والنفايات العضوية والصلبة من تفريغ حمولاتها في مطمر أنشئ لهذه الغاية في خراج الناعمة وبلدية عبيه – عين الدرافيل، جبل لبنان الجنوبي. دافعُ الأهالي إلى منع التفريغ في المطمر المذكور هو تلويثه الكارثي للبيئة وللروائح السرطانية السامة المنبعثة منه إناء الليل وأطراف النهار.
وعي الأهالي والسكان وإدراكهم، ولو متأخرين، مخاطر تلويث البيئة وآثارها الكارثية على صحتها كما على صحتهم ظاهرةٌ إيجابية بالغة الدلالة. ذلك أنّ أزمات ومشاكل متعددة، سياسية واجتماعية واقتصادية، تلّوث حياة اللبنانيين منذ أجيال ومع ذلك لم تستولد في نفوسهم الإحساس والحساسية اللازمة للثورة على الحاكمين المسؤولين عن الكارثة المزمنة والمتجذرة.
أخيراً وجد الحاكمون المتحكمون والفاشلون انفسهم أمام غضب جارف يجهر به عشرات آلاف الناس ولا يجد مجلس الوزراء والمجالس البلدية حلولاً عملية جاهزة لمواجهته. صحيح ان ثمة حلاً ثورياً لمشكلة النفايات يتلخص بإقامة معامل خاصة لحرقها من دون أن تترك روائح او آثاراً ملوِّثة، لكن متطلبات هذا الحل المالية والإدارية والتقنية غير متوافرة حالياً وتستلزم وقتاً وجهداً لتوفيرها. من هنا تنبع حدّة المشكلة، ذلك أن معظم البلديات لا تملك اراضي صالحة لجعلها مطامر موقتة بانتظار تأمين مستلزمات حرق النفايات في معامل متخصصة.
هذه المشكلة المستجدة تزيد المشكلة الأساسية تعقيداً، بل هي تستولد بدورها مشكلة أخرى لا تقلّ ضراوةً عن الاثنتين معاً. إنها مسألة «لا مركزية النفايات»، بمعنى ان تتولى كل بلدية أمر معالجة نفاياتها الأمر الذي أثار ردود فعل حادة لدى الأهالي في البلديات، لا سيما بلدية بيروت العاصمة، التي لا تملك اراضي صالحة لطمر النفايات ولكنها تحتضن مئات آلاف السكان المقيمين من غير أبنائها، فماذا تفعل؟ هل يردّ أهالي بيروت على إحجام بلديات المحافظات الأخرى عن توفير اراضٍ لبلديتهم بغية طمر نفاياتها بمنع أبناء المناطق من التعلّم في مدارس العاصمة وجامعاتها او الاستفادة من الطبابة في مستشفياتها؟
كان الأمر ليهون لو أن لدى المسؤولين المختصين القدرة والرغبة في إيجاد حلول وطنية موضوعية لمشكلة النفايات. لكن ما بالك وهؤلاء، بعضهم أو جلّهم، لا يتورعون عن استغلال مشاعر أهالي البلديات المالكة لاراضٍ يمكن تخصيصها موقتاً لطمر النفايات بتحريضهم على رفض توفير اراضٍ للبلديات المحتاجة الى مطامر بدعوى أنها ستكون مصدراً لمزيد من السموم والتلويث.
يقف أهل السلطة عاجزين أمام كل هذه المشاكل التي تعصف بالبلاد. ألمْ يخفقوا طوال السنوات العشر الماضية في حل مشاكل شائكة أصبحت مستعصية؟ فالدولة من دون موازنة سنوية منذ عشر سنوات على التوالي، وبلا رئيس جمهورية منذ 427 يوماً، وبلا قادة غير ممدد لهم للجيش والأمن الداخلي والإستخبارات والعشرات من مراكز الفئة الأولى، وبلا سلسلة رتب ورواتب للموظفين والمعلمين والعسكريين منذ 1996، كما تعاني من دين عام يربو على 70 مليار دولار أميركي.
كل هذه الأزمات والمشاكل والمتاعب المزمنة والمتجددة تستوجب إجراء انتخابات عامة لتجديد وتنظيف الطاقم الحاكم والخلاص من نفاياته. لكن فئة الحاكمين من كلّ الطوائف والمذاهب لا تريد أو لا ترغب في إجراء انتخابات، فتتذرع بعدم التوافق، بعد، على قانون جديد للانتخابات.
متى يتمّ التوافق المنشود للخلاص من النفايات السياسية؟
الجواب: الغضب الساطع آتٍ أسرع مما يظنّون…