السلفيّة الجهادية في تونس… بداياتها وآفاقها

فؤاد عيتاني

عقب تغيّر النظام السابق في تونس بدأ يتصاعد اهتمام التيار السلفي بالمسألة السياسية، ما دفعه إلى المزيد من المساهمة في مناقشة القضايا العامة على أنواعها، والحرص على إبداء الرأي في كل منها، ما تسبب بصراع إيديولوجي داخل هذا التيار بين اتجاه المحافظة على المنهج الصدامي العنفي، لعدم استجابة جميع الفاعليات السياسية لمطلب الدولة الإسلامية مثلما يتصورها التيار. وتورط معظم الأحزاب في الولاء للغرب والعمالة له، بحسب رأيهم، وآخر في اتجاه سلوك منهج الدعوة بدلاً من الجهاد، رغم تقارب الخلاصات في توصيف الواقع لدى الإتجاهين.

يشير الواقع الى أن الأغلبية الساحقة من التونسيين تعارض منهج السلفية الجهادية، كما تدين العنف السياسي. فالسلفية تيار واسع في تونس يضم متديّنين متشدّدين ومنحرفين معروفين بإجرامهم وسوابقهم، ومعروف عنه تعرضه للاختراق الأمني والاستخباراتي، إذ اضحى راية للتدخل الخارجي في الشأن التونسي الداخلي عبر الذراع السلفية العنفية، كان واضحاً التزامن بين الأزمات السياسية المتتالية التي عاشتها البلاد في السنوات المنصرمة وتصاعد عمليات الاغتيالات والتفجيرات ما جعل من العنف السلفي الأداة الرئيسية لبعض الأجندات السياسية المعروفة على الساحة في مواجهتها الإعلامية لخصومها.

تعود جذور الدعوة السلفية في تونس إلى رسائل كان حملها حُجّاج تونسيون بداية القرن الثامن عشر من الجزيرة العربية إلى الباي التونسي آنذاك، لكن الوقائع التاريخية تشير إلى أنها لم تلق القبول والترحيب من المؤسسات السياسية والدينية التونسية إذ كلّف الباي مشايخ الزيتونة بالرد عليها، كما أن عمق الحركة الصوفية في المجتمع التونسي حال دون أن تأخذ هذه الدعوة طريقها.

استمر هذا النهج في رفض الدعوة السلفية الواردة من الخارج، خاصة مع تشكّل الحالة التونسية متمثلة في حركة الإصلاح التونسي وانفتاح الثقافة المحلية على الأطر المعرفية الحديثة التي عجّلت في الإصلاح الديني والمؤسسي متمثلاً في إدخال العلوم الحديثة الى جامعة الزيتونة، وسنّ مجموعة من القوانين المنظمة للحياة العامة داخل المجتمع التونسي.

إلّا أن الخيارات الثقافية الرسمية التي انتهجتها دولة ما بعد الاستقلال هيّئت الأرضية لموجة أولى من السلفية ظهرت في بداية السبعينات مع الجماعة الإسلامية باعتبارها حركة إحياء ديني، سرعان ما بدأت تتكيف مع الحالة التونسية ومع الشخصية الوطنية، منفصلة شيئًا فشيئًا عن جذورها السلفية حتى أضحت كما نراها اليوم حزبًا مدنيًا حديثًا. وبالتزامن مع هذا التحوّل ظهرت الموجة الثانية من السلفية في تونس نهاية التسعينات تحت تأثير ثلاثة عوامل:

الأول: داخلي تمثل في حالة التجهيل الديني ومقاومة مظاهر التدين كلها ما دفع مجموعة من الشباب بوازع التدين الفطري إلى النهل من مناهل دينية غريبة عن منابع التدين للمجتمع التونسي.

الثاني: دولي إذ اشتدت المعركة بين التيار الجهادي ممثلاً في «القاعدة» والغرب بقيادة أميركية في أفغانستان والعراق .

الثالث: الثورة التواصلية عبر الإعلام الفضائي ثم التواصل الافتراضي، ما عمّق الصلة بين شباب يعيش في أرضية مهيأة بخوائها من أي مضمون تديّني مجتمعي وتعبئة كبيرة ضد نزوعات الاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية، جعل التأثر الواسع بالخطاب الديني السلفي نتيجة منطقية لهذه المؤثرات.

على امتداد عقدين من عمر هذا التيار، مثّل الشباب أقل من 35 سنة الفئة العمرية الأوسع داخله نحو 78 في المئة من منتسبي هذا التيار فالحماسة الدافعة وراء القناعات والتصورات المثالية عن التجارب الإنسانية الراهنة والتاريخية والبحث عن أداء دور بطولي يتجاوز الشروط المعيشية للحياة.

إذا أضفنا إلى ذلك كلّه ضعف هياكل المجتمع في تأطير الشباب والقطيعة بينه وبين مؤسسات الدولة وانعدام أطر الحوار قبل التغير وبعده في تونس خاصة وانتشار الإحباط بين صفوفه والرغبة في التغيير، فإن تبني هذا الشباب للفكر السلفي يعد علامة رفض للواقع دولة وثقافة ومجتمعًا.

أما عن التوزيع الجغرافي للتيار السلفي الجهادي فيتوزع بنسبة 46 في الشمال و31 وسط البلاد و23 في الجنوب. كما يحتل العمال نسبة 36 ، والطلاب والتلاميذ 34 ، والتجار 15 ، وتتوزّع البقية على مختلف المهن الأخرى.

لكن تبقى هذه المعطيات نسبية إذ تعود إلى ما قبل 2011، كما تشمل فقط 1200 موقوف في قضايا كانت معروضة آنذاك أمام القضاء من أبناء هذا التيار.

اصطدم الشباب السلفي في تونس مع الدولة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب عجز السلطة عن تفهم مبررات ظهور هذا التيار وسوء ترتيب بيتها الداخلي في التعامل معه وارتهان سياساتها للاستراتيجيات الدولية في مقاومة الإرهاب.

ذلك كلّه أدى إلى تحوّل اهتمام هذا التيار من مقاومة العدوان الخارجي إلى مواجهة الدولة في الداخل، ما دعا إلى توفير مستلزمات هذه المواجهة من جهاز مفهومي إلى عدّة مادية. ورغم السجون والمحن التي تعرض لها أبناء هذا التيار، إلا أن ذلك لم يحدّ من قدرته على الاستقطاب والتجنيد وبروز قيادات محلية لم تتحول بعد إلى قيادات حركية على المستوى الوطني، رغم هيمنة بعض المرجعيات الشرعية وحظوتها باحترام واسع داخل هذا التيار.

استطاع المنهج الدعوي السلمي أن يبدو أكثر إقناعًا وانتشارًا، إلّا أن غياب المعطيات الدقيقة حول حجم كل طرف وآليات تفكيره وقدرته على تأطير أتباعه في خياره التغييري الذي يدعو إليه وذلك كله يمثل صعوبة في حُسن قراءة الواقع. كما أن اشتداد العمليات الأمنية دفع هذا التيار إلى التقوقع مجدداً وانخفاض كل صوت يدعو إلى التعقل داخله فمثل كل الجماعات الدينية، كلما ازداد الإحساس بالخطر تضاعف النزوع إلى الانطواء على الذات والتجذر.

كما نلاحظ تمايزًا جليًا بين المرجعيات الحركية لهذا التيار ومرجعياته الشرعية رغم إمكان الالتقاء الفكري والميداني فشيوخ التيار السلفي الجهادي لا يزالون يتحركون رغم التضييقات الأمنية والإعلامية، إلّا أنهم لا يعلنون صراحة مساندتهم أعمال العنف التي يقوم بها بعض أبناء التيار السلفي الجهادي.

ولئن بدا أن تنظيم «أنصار الشريعة» خاصة يدعي أنه وحّد مرجعياته التنظيمية والسياسية والشرعية، إلّا أن ذلك ما زال لم يتأكد عمليًا بالنظر إلى أن كل مرجعية تحتاج إلى أن تكتسب حضورها الواقعي من خلال بعض الشيوخ والرموز.

أما في ما يخص المجموعات الأخرى فما زالت تنازع لتحقيق هذا المطلب من دون جدوى حتى الآن. أعاق تحول بعض فصائل التيار السلفي الجهادي إلى أحزاب سياسية كان لعدم وجود تأصيل شرعي معتمد عندها للعمل الحزبي، وعدم اقتناعها بالآراء السلفية الأخرى لذا اختار التيار السلفي الجهادي أن يشتغل ضمن الفضاء العام غير المهيكل لأنه يحقق له المرونة المطلوبة في تصريف اهتماماته من دون أن تترتب عليه أيّ التزامات قانونية أو أخلاقية أو سياسية.

وُجد توجه داخل التيار السلفي الجهادي خاصة إلى بذل جهد كبير للتواصل مع بيئته الاجتماعية الحاضنة من خلال مشاريعه الخدمتية والدعوية والإعلامية، وسعى إلى تنظيم عمله ووزّع إدارياً المهمّات داخله لجنة شرعية-سياسية-إعلامية-اجتماعية-دعوية… .

اللافت للانتباه هنا صعوبة التحول التي عاشها هذا التيار إذ عاش تمزقًا بين أرضية ثقافية عنفية يكتسب من خلالها التعبئة الداخلية لما يعبّر عنه من قناعات وأدوار اجتماعية يروم القيام بها تتطلب منه تكيفًا هيكليًا وواقعيًا يهيئ له الفضاء العام لإنجاز مهمّاته.

انعكس هذا الاضطراب عندما شاهدنا الاصطدامات المتتالية مع الحكومة حول السفارة الأميركية في 14 أيلول 2012، ثم تحولت إلى مواجهات مسلحة مفتوحة بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي إذ اتُّهِم هذا التنظيم بجريمتي الاغتيال.

كما انعكس الاضطراب أيضًا في المواجهات المتقطعة في جبل الشعانبي وفي المناطق الحدودية مع الجزائر. وزادت عمليات المواجهة بين التيار السلفي والدولة من حدة القلق الذي يعيشه أبناء هذا التيار وفاقمت الشك والشعور بعدم الاطمئنان وهذا ما يمكن أن يفسر الحرص على مراكمة وسائل العنف وتكديسها وتخزينها في وضع انتقالي هش بطبيعته.

ربما ضاعف المخاوف من هذا التيار بروز صلة قوية تربطه بالتيار الجهادي العالمي، ورغم بعض التصريحات التي ترسم خطوط الفصل بين تنظيم أنصار الشريعة وتنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي، إلّا أن التواصل المؤكد مع أنصار الشريعة في ليبيا وثبوت تورط جزائريين ومن جنسيات أخرى في العمليات الأمنية الأخيرة ألقى بكثير من الشكوك في هذه المسألة.

مشكلة السلفية الجهادية في تونس أولاً هي في عدم وضوح خطابها ورؤيتها إذ سقطت جميع التطمينات الخطابية على أعتاب المواجهات الأمنية المتكررة والغدر بمجموعة من قوات الجيش الوطني والأمن الداخلي وذبحها.

كما أن عدم هيكلة هذا التيار ضمن الأطر القانونية المتعارف عليها في المجتمعات الحديثة ألقى بظلال من الشك حول النوايا الحقيقية له، بل تعدى الأمر ذلك عندما أصبح إطار العيش المشترك بين التونسيين -أي الدولة- مهدّدًا منه.

أخيرًا، تحوّلت حالة الغموض في مواقف أنصار الشريعة خاصة حيال العمليات التي تستهدف السلم الأهلي، عامل إدانة لهذا التنظيم فرغم عملية التشكيك التي يمكن أن تطول الجهات التي تقف وراء بعض العمليات وإمكان تدخل أطراف غير سلفية في تذكية المواجهة مع الدولة والمجتمع إلاّ أن الصمت المريب الذي يلف مواقف السلفيين عزّز توجيه الاتهام لهم.

من ناحية أخرى، قد لا يشعر كثير من التونسيين بالثقة من المعطيات التي تبني عليها الحكومة موقفها من السلفية الجهادية، رغم الإجماع الحاصل داخل المجتمع التونسي على إدانة العنف السياسي.

إن معالجة العنف داخل التيار السلفي تستوجب إجراءات مركبة بين القانوني الزجري والحواري التواصلي وملء الفراغات وترشيد الصحوة ونشر الثقافة الدينية الإيجابية. وهذا يستدعي أيضًا التمييز بين ما يمكن أن تقوم به مؤسسات الدولة الأمنية والتعليمية والتنموية، وما يجب أن تقوم به هياكل المجتمع المدني من تواصل وحوار وترشيد وسدّ فراغات وتطوير قدراتها التأطيرية للشباب خاصة، وقدرتها على إسناد هذه الجهود ودعمها من تشجيع على إدماج الشباب السلفي ضمن النسيج المجتمعي وتفريغ طاقاته المتدفقة لخدمة المجتمع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى