كاتب ومترجم سوري
كاتب ومترجم سوري
بعد سنة من الحرب على القطاع… لا يزال شبح الموت يخيّم عليه
كتبت عميره هاس في صحيفة «هآرتس» العبرية:
نواف، هو من المحظوظين في غزة ممن يعملون في منظمة دولية. في الاسبوع الماضي حصل على تصريح خروج إلى شرق القدس لبضعة أيام. التقينا صدفة، وعلى الفور انتبهت لعينيه: فهما تشبهان عيون سكان غزة الآخرين ممن خرجوا من القطاع في السنة الاخيرة، والتقيت بهم. التعبير «نظرة منطفئة» وكأنه جاء خصيصاً ليصف عيونهم.
سلمى، من سكان القطاع، تؤكد في مكالمة هاتفية: هكذا عيوننا جميعاً في غزة. حسن زيادة، طبيب نفسي يعمل في مركز الصحة النفسية في غزة، يعرف جيداً هذه النظرة ويقول: من شدة الألم المستمر، من شدة الخوف الفظيع الذي ألمّ بنا وعلق، فإن الناس غير قادرين على البكاء. العيون جافة من الدموع.
القطاع مغلق ليس فقط في وجه خروج الغالبية الساحقة من سكانه، بل ومن الدخول أيضاً. وإمكانية الاطلاع المباشر على السبل التي يتصدون بها لعبء الفقدان والدمار محفوظة اساساً للمواطنين الاجانب ـ موظفي المنظمات الدولية، الديبلوماسيين والصحافيين. اما كل من تبقى، بمن فيهم الصحافيون «الاسرائيليون» من الضفة ومن «إسرائيل» فيحتاجون إلى وساطتهم.
وبفضل وساطة «الجزيرة» بالانكليزية عرفنا بمبادرة محلية في حي الزيتون في غزة: ادخال بعض الفرح إلى العيون، تلوين الجدران الاسمنتية القاتمة للمنازل بألوان فرحة وملء الزوايا بالنباتات، بما في ذلك غرسات البندورة. جمعية «تامر» للتعليم تتبرع للناس بالفراشي وبالالوان، وأحياء اخرى تنوي السير في اعقاب الزيتون. ويرحب زيادة بالمبادرة: هكذا تبنى وتظهر الشراكة، وهكذا يتم التغلب على السلبية، نتيجة الصدمة والفقدان. ولكن هذا جزء صغير من الصورة.
صحافي فلسطيني مواطن من دولة غربية سمح له بالدخول إلى القطاع ذهل إذ اكتشف كيف اصبح الموت جزءاً من الحسابات اليومية «الطبيعية». واحدة ما روت له أن مدرسة معينة أجرت تعديلات في الصفوف لانه في صف واحد «قتل 12 من التلاميذ» في حرب 2014. أي أن المعطى الثابت كان الموت، اما المتغير ـ التغيير الذي اضطروا لاجرائه في انظمة الصفوف. ويروي زيادة أن هناك ارتفاع في عدد الناس الذين يفكرون بالموت كمخرج.
صحافي غربي آخر روى عن الأطفال الذين ابدوا إعجاباً بمسلحي عز الدين القسام في مسيرة عسكرية بمناسبة سنة على الحرب. وذهل من وجه الشبه بين جيش حماس والجيش «الاسرائيلي» وقلق من مجرد التفكير بوقوع حادثة وانفجار سلاح ما في قلب الجمههور. ويروي الاهالي عن أن اطفالهم يبولون في نومهم، يستيقظون من كوابيسهم التي يقفون فيها مشلولين امام وحش يهاجمهم. وعلى أي حال، فإن بعضاً على الاقل من الاطفال الذين تجمعوا لمشاهدة المسيرة يعانون في الخفاء من ذات المتلازمة. ويقول زيادة ان «الاطفال يشعرون بالغضب، يريدون الانتقام، ولهذا فانهم يجتذبون للقوة التي تتجسد في المسيرة العسكرية».
نواف، ابن 45، فكر بأن يستغل تواجده القصير في الضفة الغربية كي يتحدث مع طبيب نفسي. وهو لا يعتقد أن بوسعه حقاً أن يستعين بطبيب نفسي داخل القطاع «فهم يعانون من الصدمة مثل الجميع» . ويعرف زيادة جيداً ما يقصده نواف: هو نفسه ثكل أمه، ثلاثة من اخوانه، واحداً من اصهرته وابن اخيه الصغير في قصف «اسرائيلي» واحد على بيت العائلة في مخيم البريج للاجئين.
هجوم الجيش «الاسرائيلي» في صيف 2014 تميز بقصف عشرات المنازل على سكانها. في 70 حالة من قصف المنازل على سكانها والتي وثقتها وحققت فيها «بتسيلم» قتل 606 اشخاص، نحو ربع عموم القتلى الفلسطينيين في الحرب. 93 قتيل من القتلى كانوا رضعاً واطفالاً صغاراً حتى سن 5 سنوات. 129 ابناء وبنات 5 حتى 14، 42 فتى وفتاة حتى سن 18، 135 امرأة و 37 امرأة ورجل فوق سن 60. في 20 تموز 2014، في اليوم الذي قصف فيه منزل زيادة، قصف الجيش «الاسرائيلي» ستة منازل أخرى على عائلاتهم في ارجاء القطاع، وقتل 76 شخصاً بينهم 41 طفلاً وطفلة و 23 امرأة، ولكن عائلة زيادة حظيت بنشر خاص لأن عم زوجة اخيه الهولندية، هانك زنولي، أعلن في اعقاب قتل ابناء عائلته بأنه يتنازل عن لقب محب العالم الذي حصل عليه لإنقاذه اطفالاً يهوداً في زمن الاحتلال النازي.
زيادة هو طبيب نفسي كبير في مركز الصحة النفسية في غزة. وبين الحين والآخر يحتاج إلى مساعدة زملائه في المركز كي يتغلب على ألمه ويواصل بنفسه معالجة الاطفال والكبار الكثيرين الذين يأتون للعلاج الدائم في المركز. ومع ذلك فإنه يعتقد أنه بسبب ثكله الشخصي يمكنه أن يفهم جيداً مرضاه وكذا من ليسوا مرضاه.
هناك من يوجهون الغضب والخوف نحو أنفسهم، وهذا يعبر عن نفسه بالاكتئاب، بالآلام، بالتعلق بالادوية المضادة للاكتئاب.
«ر»، باحث ميداني في احدى منظمات حقوق الانسان، يشير إلى ظاهرة جديدة. الآن النساء ايضاً يدمنّ على الادوية التي تحسن المزاج، وليس فقط الرجال. هناك أناس، يقول زيادة، ممن يوجهون العنف تجاه الخارج.
من لم يفقدوا ابناء عائلاتهم، او لم يفقدوا بيوتهم يرون أنفسهم محظوظين مقارنة بالاخرين ويتعاملون مع خوفهم واكتئابهم والتوجه إلى تلقي المساعدة بأنه «زائد» او «ترف». وفي الوقت نفسه ليس هناك من سبيل للتملص من تسلل ماضي الحرب نحو الحاضر. «بشكل عام يحاول الناس النسيان»، تقول «ح»، طبيبة في وكالة الغوث. «ولكن من فقد احد ما مباشر، كل شيء يذكره به».
كل يوم تسمع ايضاً أصوات الرصاص، سواء نحو الصيادين أم نحو المزارعين. وطوال الايام تسمع اصوات الطائرات من دون طيار في السماء. وإلى جانب الدمار وانعدام اليقين فإن هذا يذكرهم «بوجود تهديد حقيقي على الحياة»، يقول زيادة. «في مثل هذا الوضع من القلق والخوف كل الوقت يحتاج الانسان إلى آلية تساعده في التغلب واحتمال كل المعاناة التي تغمره. يوجد الدين، كجزء مركزي في ثقافتنا، وفيه العنصر الهام للايمان بالقدر وأن هكذا مكتوب علينا وهناك صلاة لله لإنقاذنا واللطف بنا».
يروي صحافي أجنبي بأن رجال «حماس» يأمرون في المساجد بعدم الحزن على موتاهم. «ح» ترى التكافل الاجتماعي ـ العائلي الذي لم يفتقد. ولكن «ر» يرى الـ «75 في المئة»، بتقديره، ممن تطلعهم لترك القطاع لعدم وجود مستقبل فيه. وهو يقول: «اعمل من الصباح حتى المساء كي أنسى والا أفكر بالوضع. ولكن ماذا عمن ليس لهم عمل؟ العائلات، مع الكبار العاطلين عن العمل منهم، يثقل انعدام الفعل عليهم كل اليوم. مثل زيادة، هو مقتنع أن الناس يواصلون العيش والتكيف زعماً، لأنه لا يوجد بديل.