توازن الرعب الجديد بين سورية وأعدائها…
سومر صالح
عادة ما تشير عبارة توازن الرعب إلى امتلاك الطرفين قدرة تدميرية كاملة أو بالغة التأثير في الطرف الآخر تمنعه من استخدام قوته العسكرية ضده، وبالتالي هي أحد مكونات التوازن الاستراتيجي الشامل القائم على مقومات عسكرية وسياسية وجيو اقتصادية، وعندما وقّعت سورية اتفاق حظر انتشار السلاح الكيماوي خيّل للبعض أن توازن الرعب قد انكسر لمصلحة «إسرائيل» وأن ميزان التوازن الاستراتيجي بين سورية و«إسرائيل» قد مال لمصلحة «إسرائيل» مدفوعاً بعوامل عدة، أولها التدمير الذي لحق بالبنية الاقتصادية والعسكرية السورية، وثانيها تدمير كامل الترسانة الكيماوية السورية تنفيذاً للاتفاق الذي التزمت به سورية، وثالثها حالة العزلة السياسية للدولة السورية، وتعزز هذا الاتجاه في الآونة الأخيرة بتوقيع إيران اتفاق فيينا النووي، الذي يعني أن إيران حليف دمشق الأهم لن تمتلك القنبلة النووية، ما كان من شأنه المحافظة على شكل من أشكال توازن الرعب مع القوة النووية «الإسرائيلية». ولكن إذا كانت الحال كما تم توصيفها مقدماً، ما الذي يمنع «إسرائيل» من شن حرب ضد الدولة السورية؟ وما الذي يجبر تركيا على المناورة والتستر تحت مظلة الأطلسي في حربها ضد الدولة السورية؟ ببساطة يكمن الجواب مختصراً بما أسميه «ديموغرافيا المقاومة»، وهي باعتقادي النظرية السورية الجديدة في التعاطي مع أيّ احتمالات للعدوان الخارجي، وهي نظرية على مستويين، مستوى داخلي سوري ومستوى إقليمي شرق أوسطي، إذ أبدى الشعب السوري بغالبيته استعداداً للانخراط في العمل العسكري تحت راية الجيش السوري بمسمّيات عدة، أهمّها الدفاع الوطني واللجان الشعبية، وكتائب البعث، ونسور الزوبعة، ودرع الجزيرة في الشمال الشرقي السوري وقوات المقاومة الحورانية «حمو»، حيث تقوم هذه الرؤية السورية على فكرة السيطرة الديموغرافية المقاومة على الجغرافيا السورية أو الوجود فيها، بمعنى منع الميليشيات الإرهابية من تحقيق سيطرة تامة عليها، إذ انطلقت القيادة السورية من اعتبار رئيسي وهو الفهم الواضح والعميق للحاجة الخارجية للجغرافية السورية في الصراع على شكل النسق الدولي بين القوتين الروسية والأميركية وما تمثله سورية جغرافياً بين المشروعين الجيوبولتيكيين الأوراسي والأطلسي، هذه الحاجة الخارجية تضع الجغرافيا السورية أمام تحديات العدوان الخارجي الأميركي أو التركي أو «الإسرائيلي» أو تحالف مشترك بينهم، كما أن مشاريع التقسيم ستكون حاضرة وبقوة في التفاهمات الدولية أو التسويات التاريخية، فكان الاتجاه إلى خيار الديموغرافيا السورية المقاومة، هذه الديموغرافيا السورية هي مقاومة باتجاهين، الاتجاه الأول ضد احتمالات أيّ عدوان خارجي والثاني ضدّ خطر التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى، وضمن هذا الخيار عملت الدولة السورية على بناء أشكال متعددة من التنظيمات العسكرية المرتبطة عضوياً بالجيش العربي السوري قيادة وتسليحاً ضمن هذه الاستراتيجية طبعاً وبرؤية وطنية تمنع تحولها مستقبلاً إلى ميليشيات فرعية ومراعية أيضاً التوزع الجغرافي السوري، فمثلاً قوات درع الجزيرة في الشمال الشرقي السوري وقوات المقاومة الحورانية «حمو» في حوران ولواء درع الساحل على شواطئ المتوسط… الخ، بذلك تتوخى الدولة السورية جملة من الأهداف المرتبطة ببعضها، أولاً، ومهما بلغت حدّة العدوان الخارجي وشراسته على سورية تبقى تلك التنظيمات العسكرية نواة الدفاع عن المنطقة المعتدى عليها ومن أهل المنطقة نفسها، بما يمنع تحقيق نصر عسكري للقوة المعتدية سواء أكانت دولة أم تنظيماً إرهابياً، الأمر الذي يدخل تلك القوات الغازية بحرب استنزاف طويلة الأمد ويفقد القوة العسكرية المهاجمة تكتيك الجيوش ويدخلها تكتيك حرب المقاومات مستفيدة من انتصارات حزب الله في لبنان الذي أضحت تجربته استراتيجية تدرس في الأكاديميات العسكرية، ثانياً، ستكون القوات المهاجمة على مواجهة مباشرة مع أهل المنطقة نفسها، الأمر الذي يسقط ادّعاءات الحماية الدولية ويجعلها باطلة قانوناً، ما يضع الولايات المتحدة بمأزق في الأمم المتحدة أمام احتمال إقرار قانون دولي تحت مسمى «حماية المدنيين»، لأن القوتين الروسية والصينية ستضع الفيتو مباشرة ومن دون حسابات دولية لأن الادعاء باطل جهاراً. ثالثاً، ستكون تلك القوات في مواجهة أي نزعات انفصالية لقوى ممولة خارجياً في تلك المناطق. رابعاً، هذه التنظيمات العسكرية المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالجيش العربي السوري هي بمثابة الرصاصة القاتلة بالنسبة للمعارضة السورية المرتبطة بالأجندات الخارجية، حيث أفقدتهم قدرة المناورة السياسية تحت مسمى «إرادة الشعب بالتغيير»، إذ أثبتت ولاءً مطلقاً للدولة السورية والوطن السوري وبقيادة الرئيس بشار الأسد معبرين عن ذلك بالانضواء تحت راية الجيش العربي السوري.
هذا كله بالنسبة إلى المستوى الداخلي لهذه الرؤية أو النظرية، وإذا ما انتقلنا إلى البعد الإقليمي نجد تشابهاً تاماً في الحالة العراقية تحت مسمى الحشد الشعبي وقوات العشائر المساندة للجيش العراقي، وفي لبنان أيضاً فقوات المقاومة اللبنانية مسنودة بأهالي المناطق الحدودية شكلت سداً منيعاً جنّب لبنان الكارثة الإرهابية، الأمر الذي يجعل الجغرافيا الإقليمية فضاء ديمغرافياً في مواجهة هذا الغزو الإرهابي تحت مسمى تنظيم داعش، هذا المتغيّر الجديد في السياسة الإقليمية وهو الديموغرافيا المقاومة إذا ما أضفنا إليه متغيراً جديداً اسمه التحالف العضوي بين سورية وحزب الله وحالة تنسيق سياسي وعسكري غير مسبوق في تاريخ العلاقات السورية ـ العراقية، وأضفنا إليه متغيراً جديداً عنوانه إيران ما بعد الاتفاق النووي والذي يعني قدرة إيرانية الشرعية على دعم حلفائها عسكرياً واقتصادياً، واستمرار حالة العداء لـ«إسرائيل»، كل ذلك يضع «إسرائيل» في مأزق تاريخي عنوانه القنبلة الديموغرافية المقاومة لها ولمشاريعها، هذا القنبلة الديموغرافية أشد تأثيراً فيها من السلاح غير التقليدي، حيث أفقدها القدرة على شنّ حرب عسكرية بالمعنى التقليدي لاستحالة تحقيق النصر، لوجود نواة مقاومة عسكرية دائمة قوامها أهل المنطقة نفسها سواء في جنوب لبنان أو حوران أو السويداء… فالنزول العسكري البري أضحى من الماضي، هذا إذا ما أضفنا إليه قدرة الجيش السوري والمقاومة على تدمير البنية الاقتصادية «الإسرائيلية» في مواجهة كهذه، النقطة الثانية هذه الديموغرافيا المقاومة تبقي من «إسرائيل» كياناً غريباً مصطنعاً في المنطقة بخلاف ما تحاول الولايات المتحدة صنعه أو فرضه بتحويل «إسرائيل» إلى كيان طبيعي في المنطقة، النقطة الثالثة ستبقى «إسرائيل» تحت حالة ضغط شديد وتوتر، نظراً إلى تزايد مشاعر الكراهية لها وستستمر حالة الاستنزاف الاقتصادي والعسكري لها أمام توسع حالة «الديموغرافيا المقاومة لها».
إذاً، دخل الشرق الأوسط منعطفاً تاريخياً عنوانه الشعوب في مواجهة الاستعمار المتجدد شكلاً ومضموناً بخلاف ما كانت ترمي إليه القوى الاستعمارية التي خلقت مناخات الخريف العربي حيث أرادت أن تضع تلك الشعوب في مواجهة حكوماتها تنفيذاً لأجنداتها، وأكثر ما يرعب أميركا و«إسرائيل» الآن هو انتقال تلك الحالة الديموغرافية المقاومة إلى شعب مصر الذي بدأ الإرهاب يضربه بقوة، وإذا ما تحقق ذلك سيكون المشروع الأميركي في المنطقة وعلامته الفارقة «إسرائيل» أمام لحظات مصيرية تعصف به، إنها نتائج التحالف العضوي بين شعب مقاوم في سورية ومقاومة فذة في لبنان. سننتصر مهما تعقدت الأزمات إنه قدر الشعوب المقاومة.