الإلهان تمّوز وعشتار… أسطورة خالدة!
زيد خلدون جميل
كانت حياة الإنسان الأوّل مليئة بالمخاوف التي أرعبته بشكل كبير، فالمطر والطعام والزواج وإنجاب الأطفال والصحة والموت وكل ما يتعلق بحياته، كانت أشياء مهمة جدّاً بالنسبة إليه، ولكن خارج نطاق فهمه ولذلك أعتقد أن كل جانب من حياته واقع تحت سيطرة قوة ما لا يستطيع السيطرة عليها، أطلق عليها اسم آلهة وتعددت الآلهة وأعطاها صفات بشرية من ناحية المشاعر والتصرفات، فهناك ذكر وأنثى والآلهة تتزوج وتنجب وتغضب وتنتقم وتتصل بالبشر، لا بل أنها تكوّن عالماً موازياً لعالم البشر مع فارق واحد وهو الموت، فالآلهة نادراً ما تموت.
ومن الممكن أن نعتبر أن العادات الاجتماعية التي اتصفت بها حياة الآلهة مأخوذة في الأصل من العادات الاجتماعية لمن اختلقها، وهم السومريون والبابليون والآشوريون، وأخصّ بالذكر هنا السومريين لأنهم أوّل من تكلم عن الآلهة، ولذلك فإن قصص الآلهة تعطينا صورة عن العادات الاجتماعية في وادي الرافدين آنذاك، مع الأخذ بالاعتبار أن القصص تحتوي على مبالغات لإبقائها مثيرة، خصوصاً أنها عمن هم أقوى من البشر. ومن المحتمل أن قصص الآلهة كانت من المواضيع الرئيسية في مجالس الناس، خصوصاً عليتهم آنذاك، وتجلى كل هذا في أولى حضارات الإنسان وهي الحضارة السومرية في وادي الرافدين، التي وصل فيها المفهوم الديني إلى درجة بالغة التعقيد.
وتعتبر الكتابات السومرية أقدم كتابات عن الأساطير في العالم نظرا لكون الكتابة اختراعاً سومرياً، وقد ورث هذا البابليون والآشوريون وكان تأثير ثقافة وادي الرافدين بارزاً بسبب طول فترة هذه الحضارة ورقيها. وتختلف قصص الآلهة قليلاً بحسب المدينة والزمن، إلا أن الصفات الرئيسة تبقى في القصة. وأهم هذه القصص هي قصة تموز وعشتار، فقد كان تموز إله النباتات والماشية والمأكولات، وكان يسمى أيضاً الراعي ومن رموزه الثور.
أما عشتار، التي كانت أكثر أهمية من تموز، فقد كانت إلهة الحبّ والجمال والخصب والحرب، وكانت الإلهة الرئيسة لمدينة أوروك «الوركاء» وإلهة مرموقة في كل مدينة في وادي الرافدين، ومن الممكن تمييز الآلهة في آثار وادي الرافدين، نظراً إلى وجود النجوم المصاحبة للرسم الذي يرمز إلى الآلهة، وقد كان من رموز الإلهة عشتار النجمة الثُمانيّة وكوكب الزهرة، وكان والدها سين إله القمر، وهي أخت شمش إله الشمس، مكوّنة ثالوثاً مهماً من الشمس والقمر والزهرة، فقد كان الرقم ثلاثة ذا أهمية خاصة في وادي الرافدين، ويشاركه في هذا الرقم سبعة. وقد أعطى السومريون الإلهة عشتار كل الصفات الأنثوية، فهي تحب وتغوي وتهجر وتنتقم وتخون، وقصتنا هنا تتمحور حول علاقتها بزوجها الإله تموز، التي تطورت إلى قصص أخرى كثيرة استمرت لآلاف السنين في مناطق عدّة من العالم. وأودّ هنا أن أوضح أن عشتار هو الاسم السامي للآلهة، وهي كلمة تعني الإلهة، إذ كان الاسم السومري إنانا، والأمر نفسه بالنسبة إلى تموز، إذ كان اسمه السومري دموزي، ويعني الابن البار، ولكننا سنستعمل الاسمين الساميين في هذا المقال للتبسيط.
كانت الإلهة عشتار آلهة بالغة الجمال والذكاء وعرفت بجرأتها، فحسب الكتابات السومرية أرادت عشتار أن تدخل الحضارة إلى أوروك، وكان من يملك النواميس الإلهية لفنون الحضارة هو الإله انكي، إله الحكمة والمعرفة الذي كان يعرف ما تنطوي عليه قلوب الآلهة. فأرادت عشتار زيارة انكي لأخذ النواميس. وما أن عرف الإله انكي بقدوم الآلهة عشتار حتى أمر باستقبالها بكل ترحاب، وتجهيز مأدبة فخمة على شرفها تزخر بكل ما لذّ وطاب من أكل وشراب، إلا أنه كان قد قرر عدم إعطائها النواميس، أو على الأقل ليس بهذه البساطة. وعندما جلس الاثنان على المائدة أخذ الإله انكي يسرف في الشراب والكرم حتى نسي حذره، وهو في حالة سكر شديد فأعطاها ما أرادت، وعندما أفاق الإله انكي في صباح اليوم التالي ذهل لاكتشاف ما حدث، فأمر بعمل كل شيء لاسترداد النواميس ولكن من دون جدوى، وبذلك أصبحت أوروك متحضرة.
تقدّم الإله تموز لخطبة عشتار عن طريق الاتصال بشقيقها، ولكن كان لعشتار رأي مختلف فقد كانت مغرمة بفلاح يدعى انكي ـ امدو وقد وافق الشقيق ولكن هذا لا يكفي. فالمهم موافقة صاحبة الشأن، ولذلك فقد تكلم معها لإقناعها وكان هذا نقاشاً صعباً بين الاثتين فأسرف الشقيق في وصف محاسن المتقدم، من دون أن يكشف هويته حتى يجعلها تحزر من هو، وحزرت في نهاية المطاف، ولكن هذا لم يثنها عن عزمها فواجهها الإله تموز بنفسه ووعدها بتقديم كل ما تتمناه، وبعد جهد جهيد وافقت الإلهة عشتار وغضت النظر عن الفلاح الذي التقى بتموز بعد ذلك وكاد الأخير أن يهجم على الأول، إلا أن الفلاح كان مؤدباً وعرف كيف يهدئ من روعه فتراجع الإله تموز، وبعد أخذ ورد تصالحا ودعا تموز الفلاح لحضور الزفاف وقبل الرجل الدعوة متشرفاً. وتقابل الإله تموز والإلهة عشتار عدة مرات مساء، وفي إحدى الأمسيات مر الوقت من دون أن يشعرا فخشيت الإلهة عشتار العودة إلى البيت في ساعة متأخرة خوفاً من مواجهة والدتها، فاتفقا على عذر مناسب وهو، أن الإلهة عشتار كانت مع صديقة لها في حديقة عامة للاستمتاع بالرقص والغناء وانقضى الوقت بسرعة.
وكما هو الحال مع العشاق، فإن هذه اللقاءات لم تخل من المشاجرات، خصوصاً أن الإلهة عشتار كانت تشعر بعلوّ نسبها فتتعالى أحياناً على الإله تموز، الذي كان يغضب لذلك ولكن هذه مشاكل صغيرة لا توقف مسار العاشقين. وزار الإله تموز حبيبته في منزلها حاملاً هدايا، إلا أنه وجد الباب مغلقاً فناداها شاكياً، إلا أن عشتار كانت في الداخل مع صديقاتها تستعد لاستقباله، وقد اغتسلت بالماء والصابون وتكحلت وارتدت أفضل ما لديها من ثياب وحليّ طالبة من صديقاتها العزف والغناء استعداداً للقائه. وأخيراً تزوج العاشقان ليعيشا في «بيت الحياة» وهي تسمية ذات دلالة، فبوجود إلهة الخصب وإله الطعام تستمر الحياة.
وبعد ذلك بفترة قرّرت عشتار زيارة العالم السفلي الذي يسكن فيه الأموات وهو عالم منفصل عن عالمنا، وذو قوانين خاصة به وتحكمه أخت الآلهة عشتار الكبرى الآلهة ايرشكيجال التي لا تحب أختها. وعلى ما يبدو أن سبب الزيارة كان رغبة عشتار في إطلاق سراح الأموات وإعادتهم إلى عالم الأحياء. ولم تتوقع الإلهة عشتار ما كان في انتظارها من مكائد أختها التي عرفت بالزيارة مقدّماً. ولكن الإلهة عشتار كانت لديها شكوكها فطلبت من أقرب موظفة لديها أنه في حالة عدم عودتها أن تذهب إلى انكي، إله الحكمة، لإنقاذها. وذهبت عشتار مرتدية تاجاً وملابس وحلى فاخرة إلى العالم السفلي الذي كانت له سبعة ابواب، حيث قام حارس الأبواب وبناء على أوامر الاخت الكبرى بتجريد الإلهة عشتار من بعض ملابسها عند عبورها كل باب، حتى وصلت إلى أختها وهي عارية، فأمرت الأخت سبعة آلهة يعملون لديها بقتل الإلهة عشتار فوراً، وهذا ما حدث لتبدأ الكارثة، فبموت الإلهة عشتار توقفت الحياة لتوقف التزاوج، ولكن هناك بصيص أمل لإنقاذ العالم من هذه المأساة، فعندما سمع الإله انكي بمصير عشتار وجد سبيلاً للخلاص، عن طريق الاستعانة بخدمات آصوشونامر، أجمل فتى على الإطلاق، وأمره بالذهاب إلى العالم السفلي والأيقاع بأخت الإلهة عشتار في حبه إلى درجة الذهول ويجعلها أن تقسم بعمل كل ما يريد، وبعد ذلك يطلب منها إعادة الإلهة عشتار إلى الحياة.
وكان الرجل عند حسن ظنّ إله الحكمة، إلا أنّ الأخت استشاطت غضباً عند سماعها برغبته بإحياء الإلهة عشتار، ولكن بعد فوات الأوان لأنها الآن ملزمة بالتنفيذ، فأعادت الإلهة عشتار إلى الحياة، ولكن بشرط، أن تعثر عشتار على من يحلّ محلها في العالم السفلي، فخرجت الإلهة عشتار مع سبعة من شياطين العالم السفلي باحثة عن سيّء الحظ. وأثناء البحث شاهدت زوجها الإله تموز، ولدهشتها لم يكن حزيناً لوفاتها، بل سعيداً جالساً على عرشها فغضبت وقالت للشياطين أن يأخذوه فانهالوا عليه ضرباً وسحلوه إلى العالم السفلي.
إلّا أن الإلهة عشتار شعرت بتأنيب الضمير فهي في الحقيقة مغرمة به فطلبت من أختها تسوية لإرضاء الجميع، وكان لها ما أرادت، أن يقضي الإله تموز في عالم الأموات ستة أشهر تبدأ بشهر تموز، وتموت أثناءها الزراعة والماشية وينتشر القحط ويغادر بعدها ذلك العالم إلى عالم الأحياء، أي أنه يعاد إلى الحياة، وتعود الزراعة والخير معه، وتأخذ مكانه اخته للفترة نفسها ثم يعود تموز إلى عالم الأموات وهلمّ جرّا.
اعتبر سكان وادي الرافدين نزول الإله تموز إلى العالم السفلي بمثابة وفاته وكان لهذا مراسيم دينية خاصة في شهر تموز، فقد سمي ذلك الشهر على اسمه، وهي الفترة التي تنعدم الأمطار في وادي الرافدين وتنقطع الزراعة، وتضمنت المراسيم نحيب وعويل وبكاء النسوة البالغ. واعتبروا خروجه من العالم السفلي بعد ستة أشهر بمثابة ميلاده، أما زواجه فهو بداية السنة الجديدة عند سكان وادي الرافدين والموافق بداية شهر نيسان، في الحقيقة أنه عيد الربيع في وادي الرافدين. ويشمل كل احتفال ديني تمثيل الحدث المحتفى به بشكل مفصل ومؤثر للغاية أمام الملأ.
قد يعتبر البعض أن القصة المذكورة أعلاه قصة جميلة دفنت تحت تراب الماضي، وفي الواقع أنهم جزئياً على خطأ، فالقصة جميلة فعلاً ولكنها حية فقد أخذت الشعوب الباقية كل تفصيل فيها لتكوين نسخها المحلية، ويشمل هذا عيد الربيع. فهي في سورية ولبنان وفلسطين قصة بعل، وفي مصر هي قصة إيزيس وأوزيريس، وفي اليونان قصة أفروديت، ثم ظهرت قصة سيميلس وديونيسيوس وقصة برسفون في اليونان أيضاً، وفي روما كانت هناك قصة سيبيل وآتيس، وهذه أمثلة قليلة جداً، فأسطورة الإله تموز والإلهة عشتار معنا وحولنا في الوقت الحاضر، إن دققنا في التمعن. ومهما اختلفت بعض التفاصيل بحسب الخيال المحلي، فهي تركّز على موت إله الخير الذي يسبب البؤس لفترة طويلة ومن ثم يعود إلى الحياة جالباً الخير.
كاتب سوري