هل هناك مناطق عازلة؟
ناصر قنديل
– شكل السعي لاقتطاع جزء من الجغرافيا السورية تحت شعار مناطق حظر جوي أو مناطق عازلة، محور التدخل الخارجي منذ بدء الحرب على سورية، وقد طرح مرة بصفته شرطاً لتأمين وصول المساعدات الإنسانية تحت شعار الممرات الآمنة، ومرات تحت عنوان تجميع النازحين السوريين داخل الأراضي السورية برعاية أممية، ومرات كشكل يجب على المجتمع الدولي وما سُمّي بأصدقاء سورية تأمينه لحساب المعارضة المسلحة في ذروة تقدّمها العسكري لتقيم سلطتها داخل الأراضي السورية، ويمكن للحكومة التي تشكلها أن تحظى بالاعتراف الدولي على هذا الأساس وتخاض الحرب تحت لواء حكومة سورية جديدة تابعة للحلف الدولي، يقيم معها اتفاقيات عسكرية ويزوّدها بكلّ أنواع السلاح وصولاً إلى معاهدات دفاعية تبرّر التدخل العسكري.
– طرحت الصيغ المختلفة للمناطق العازلة وفي قلبها ضرورة أن تكون مناطق حظر جوي لحدود سورية مع الأردن وتركيا، وطرحت «إسرائيل» حزاماً أمنياً تقيمه بواسطة تقديم الحماية لمجموعات «جبهة النصرة» على حدود الجولان، وإذا تيسّر على حدود لبنان، وكانت الحدود التركية مع سورية كعنوان للمنطقة العازلة وتطبيق الحظر الجوي دائماً هي المحور. وتمّت دراسة كلّ الفرضيات والخيارات وخيضت كلّ الاختبارات، ونقل على الهواء أكثر من مرة نقاش موسع للفرضيات من داخل الكونغرس الأميركي ومشاركات القادة العسكريين في تقييم الموقف، وكان ذلك في ظلّ خمسة عناصر مختلفة عن الحالة الراهنة. فكانت المجموعات المسلحة التابعة علناً لتنظيم «القاعدة» غير موجودة تقريباً، وتختبئ كلها تحت عنوان وراية «الجيش الحر» وقيادته المعارضة الممثلة بمجلس اسطنبول، وكان التفاوض مع إيران معطلاً، وكانت تطرح جدياً فرضية الخيار العسكري الأميركي و«الإسرائيلي» ضدّها منفردين ومجتمعين، وكانت المعارك العسكرية تدور على كامل الجغرافيا السورية من دمشق وأحيائها إلى حمص وحماة واللاذقية وحلب، وتبدو المجموعات المناوئة للدولة السورية في حال صعود عسكري، وكان الحكم التركي الذي يشكل حاضنة المشروع في ذروة إمساكه المريح بالقرار في تركيا مرتاحاً إلى وضعه الأمني والسياسي والانتخابي، وكانت الاندفاعات الديبلوماسية لعزل سورية ومقاطعتها ومعاقبتها تتصاعد بصورة تضع الحرب النفسية في كفة الانطباع بقرب السقوط، ويومها كانت الحصيلة للمناقشات تقول علناً إنّ تركيا لن تقدم ولا تجرؤ أن تقدم من دون إحدى تغطيتين، قرار من مجلس الأمن الدولي أو من حلف الأطلسي، وطالما أنّ غطاء مجلس الأمن معلوم سلفاً أنه ممنوع بقوة الفيتو الروسي، فالنقاش الأطلسي قد خرج بحصيلة علنية عنوانها أنه بلا قرار أميركي لا إمكانية للتورّط، وكان النقاش الأميركي يخرج بحصيلة مضمونها أنّ القرار هو قرار حرب شاملة ستبدأ مع الجيش السوري وتنتهي مع إيران وحرب يشترك فيها حزب الله ضدّ «إسرائيل»، وربما تدخلها روسيا بالمساندة لسورية أقله بالسلاح النوعي الرادع والمعلومات الاستخبارية.
– لو كانت لدى واشنطن النية والقدرة لفعل ذلك لفعلته يوم جاءت أساطيلها إلى ساحل المتوسط، وكان الغطاء مناسباً وهو السلاح الكيماوي واتهام سورية بتجاوز خط أحمر للرئيس الأميركي، ولكن عادت يومها الأساطيل لذات الحسابات، فإيران أبلغت الموفد الأميركي الأممي جيفري فيلتمان أنها ستكون طرفاً في الحرب التي ستخوضها سورية ضدّ العدوان، وروسيا تصرّفت بما يؤكد أنها ستقف وراء سورية بفتح مستودعاتها لأحدث ما في ترسانتها من صواريخ «أس أس» و«ياخونت» و«إسكندر»، وستربط شبكات الإنذار الصاروخية بالدفاعات السورية بعدما قامت بإسقاط أول صاروخين تجريبيّين أطلقهما الأميركيون، وعادت الأساطيل من حيث أتت كما تجرّع أردوغان سقوط طائرته من دون التصعيد نحو الحرب، قبل أشهر من ذلك التاريخ، والمعادلة اليوم تسير في كلّ الميادين والمجالات والحسابات ليصير الذي تهرّب من الحرب يومها أشدّ تهرّباً منها اليوم.
– الذي يجري على الساحة التركية مع حكومة ضعيفة فشلت في الانتخابات، وتريد إضعاف العامل الكردي، وتريد الحرب على «داعش» غطاء لضرب الخصم الكردي، هو أنّ صفقة أميركية تركية تمّت عنوانها أن يقول الأتراك ما يريحهم شرط أن يفعلوا ما يريح واشنطن، فواشنطن تريد تسريع الحرب على «داعش» لضمان تعويض خسائر التفاهم النووي على الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة، واشنطن تريد نصراً على «داعش»، وأنقرة تريد نصراً على الأكراد، وعلى رغم أنّ واشنطن تدرك أن ليس ثمة نصر بلا تدخل بري، ولا تراهن على تركيا أن تقوم بذلك، وفي المقابل تمنحها الغطاء لضرب الأكراد، بينما أنقرة تحتاج النصر للذهاب إلى انتخابات تعوّض فيها خسارتها في الانتخابات الأخيرة، فماذا ستستفيد واشنطن؟
– تركيا بلسان رئيس حكومتها تقول لا تدخل برياً، ولا تتجرأ على القول إن هناك منطقة عازلة وحظراً جوياً، بل ترتاح للغة الغموض بالحديث عن وضع داعم للمعارضة المسلحة في المناطق التي ينتهي فيها وجود «داعش». ويضيف أوغلو انه سيفعل ذلك من دون تدخل بري، وهو لا يملك إلا إضافة عدد من الغارات إلى عشرات آلاف الغارات التي شنتها واشنطن وتعترف أنها بلا جدوى. الواضح أنّ ما تريده واشنطن هو أن تحصل من الأتراك على محاصرة «داعش» مالياً وتسليحياً وبشرياً بوقف التدفقات عبر الحدود التركية، وبعدها سيكون لها أن تسأل من سيقضي على «داعش»؟ وسيكون الجواب لا بدّ من التعاون مع الجيش السوري فوحده القادر.
– حروب الانتخابات في أنقرة وواشنطن، تجعل الأكراد و«داعش» عنان صفقة متبادلة، لكن العصفور يكفل زرزور، والنهاية هي فشل بفشل، وبعد الفشل سينحني أردوغان لخيار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيدق باب موسكو للحلف الإقليمي باباً لمصالحة دمشق، لكن واشنطن ستكون قد دقت باب دمشق قبله، وحتى وقتها ستقول سورية كلّ من ينتهك السيادة السورية سيدفع الثمن، وستعامل كلّ محاولة تركية لفرض أمر واقع كإعلان حرب.