تونس… حال مراجعة واستدراك
معن بشّور
يقولون في تونس وعنها انه إذا اجتمع ثلاثة تونسيين فالرابع معهم سيكون فلسطين حتماً، وإذا اجتمع تونسيان فثالثهما فلسطين أيضاً أما إذا رأيت تونسياً بمفرده فتأكد أن في قلبه ووجدانه تسكن فلسطين.
فالعلاقة بين تونس وفلسطين ما زالت طاهرة نظيفة مقدسة لم تلوثها الصراعات الفئوية الضيقة ولم تشوهها عصبيات الغلو والتطرف والتوحش ولا عصاباتها، ولم تدنسها الصغائر التي كثيراً ما نجحت في حرف أنظار أقطار أخرى، بل أنظار بعض الفلسطينيين، عن قضية الأمة في فلسطين.
ويروي لك التونسيون سر هذه العلاقة وتجلياتها منذ عشرات السنين، ويذّكرونك بأسماء شهداء تونسيين تعطرت بدمائهم أرض فلسطين، وتعانقت أرواحهم بأرواح شهداء المقاومة في جنوب لبنان، بل يعتزون بقوافل تونسية توجهت لكسر الحصار على غزة براً وبحراً وآخرها أسطول الحرية -3- التي ضمت الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي الذي يعيش حال مراجعة عميقة لسياساته خلال ولايته والتي كانت مشاركته في رحلة غزة نقطة البداية فيها.
وفي المهرجان الشعبي الحاشد الذي نظمه التيار الشعبي التونسي والجبهة الشعبية المعارضة للحكومة القائمة في قصر المؤتمرات، وفي الذكرى الثانية لاغتيال النائب العروبي الناصري التقدمي محمد براهمة على يد الإرهاب، بعد أسابيع من اغتيال رفيقه القيادي في الجبهة أيضاً المناضل الحقوقي شكري بلعيد، كانت الهتافات تصدح عالياً كلما ذكر خطيب كلمة فلسطين، وكانت أعلام فلسطين ترفرف عالياً جنباً إلى جنب مع أعلام تونس وسوريا تأكيداً من الحضور ومن الخطباء إن ما تمر به سورية من محنة دموية غير مسبوقة، وما تشهده من حرب كونية لا مثيل لتوحشها وتدميرها، إنما كان نتيجة الارتباط الوثيق بين سورية وفلسطين، وبين سورية والنهج المقاوم من أجل فلسطين، تماماً مثلما كان احتلال العراق وإفرازاته وتداعياته مرتبطاً بموقف العراق الملتزم تاريخياً بقضية فلسطين.
وفي الإعلان الصادر عن ندوة «وحدة القوى التقدمية العربية» التي دعا إليها التيار الشعبي في ذكرى استشهاد أمينه العام ومؤسسه الحاج البراهمة، كان واضحاً أن التقدميين العرب ومعهم أحرار العالم باتوا يدركون أن أقصر الطرق وأسلمها لبعث اليسار العربي وتجديد دوره يكمن في استعادة هذا الدور على طريق فلسطين ليتكامل مع التيارات الرئيسية الأخرى في الأمة، بل ليؤكد أن الحركة القومية العربية إما أن تكون تقدمية أو لا تكون، وأن مشروع النهوض الوحدوي للأمة لا يكتمل إلا إذا كان العدل الاجتماعي والاستقلال الوطني والتنمية المستقلة والديمقراطية أركاناً ثابتة من أركانه لا تتقدم الأمة على طريق هدف منها إلا وتجد نفسها متقدمة باتجاه الهدف الآخر.
كانت فلسطين هي الطريق وهي الهدف بالنسبة للتونسيين، منذ كنت تسمع هتافات مؤثرة «الجهاد في فلسطين يا تجار الدين» وكنت تلمس بوضوح رفض التونسيين لفكرة إقامة قواعد عسكرية أميركية في بلادهم تحت أي الذرائع، وكنت تلاحظ من دون صعوبة كيف يجتمع التونسيون بكل خياراتهم العقائدية والسياسية على رفض الإرهاب المتسلل إلى بلادهم وعلى الإقرار أن التساهل معه في ساحة عربية أدى إلى تفشيه في كل الساحات.
ولم يعد صعباً أن تلاحظ مدى ارتفاع منسوب الوعي والنضج والحكمة لدى التونسيين عن منسوبه في مرحلة الأيام الأولى للثورة حيث ظن كل تيار أو جماعة أن باستطاعته إقصاء الآخر أو إلغاءه من الحياة التونسية ليكتشف مع الوقت كم كان مخطئاً بالاستخفاف بقوة الآخرين وبالمبالغة في تقدير قوته.
قبل عامين ونيّف، وخلال أكثر من زيارة إلى تونس، كنت أجد صعوبة في إقناع أصدقاء لي من كل التيارات الفاعلة على الساحة التونسية في البحث عن مشتركات تجمعهم مع تيارات أخرى، وعن تكامل لا بد منها بين كل مكونات المجتمع التونسي على قاعدة حماية الوطن والثورة واحترام الهوية العربية الإسلامية المنفتحة على روح العصر وقيم الحداثة، لكنني في زيارتي الأخيرة لمست تحولاً هاماً باتجاه وحدة التونسيين إزاء المخاطر التي تهدد بلادهم، وتجابه الأفخاخ التي تنصبها لهم الحكومات الاستعمارية للإيقاع بينهم وبين أشقائهم المجاورين أو الأبعدين.
في تونس أيضاً حماسة كبرى لدى التونسيين تجاه الجزائر والجزائريين، فكلما كان يُذكر اسم الجزائر في ندوة أو مهرجان إلا ويرافقها تصفيق حار يقول لكل المتلاعبين بالعلاقات التونسية الجزائرية وغيره «لا تلعبوا بيننا وبين إخوتنا الجزائريين»، خصوصاً بعد أن تنادى الجزائريون إلى حملات لزيارة تونس تضامناً مع شعبها وإنقاذاً لسياحتها بعد التفجير الإجرامي في فندق «مرحبا امبريال» في سوسة، وهو التفجير الذي يلمس كل من يزور تونس ويتجول في مناطقها السياحية، لا سيما الساحلية منها، كيف ترك تأثيراً سلبياً على السياحة في تونس.
وعلى رغم كل الأوضاع الصعبة التي يعيشها التونسيون في كل مجال، فإنك تشعر أن في تونس ما يمكن أن تسميه «حال استدراك» لكثير من الاندفاعات الإقصائية الانفعالية، وهي الحال التي حمت ثورة تونس من الانزلاق إلى مهاوي الفتنة التي عرفتها أقطار أخرى.
«حال الاستدراك» هذه مفتاحها كلمة واحدة هي احترام الآخر والقبول به، وشعارها هو قول مأثور للإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب…».