الفكر التكفيريّ بداية ونهاية

ثائر أحمد ابراهيم

لست أدري بما كان علماء المسلمين يتلهّون حينما قرّر سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» أنّ لا وجود للمسلمين على الأرض طالما يحكم الحكام بغير الشرع، ولو في مسائل صغيرة، وها هو يذكر في المجلد الثاني من مؤلفاته في الصفحة 590 قائلاً: «فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده، وليس هناك إسلام إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور جل أو حقر من مصدر أخر، إنما يكون الشرك أو الكفر وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس».

سيد قطب متبني أفكار شيطانه الأكبر محمد بن عبد الوهاب، لم يسبق له أن جثى بين يدي العلماء للتعلّم ولا قرأ عليهم، ولا شمّ رائحة العلم، وكان أول أمره صحافياً ماركسياً تحوّل بقدرة خفيّة إلى علامة للمسلمين.

إنها مأساة حين نجد ثلّة من أجلاّء المسلمين، علماء ومثقفين، يمتدحون شخصاً جاهلاً ويباركون له أن جعل من نفسه نبيّاً مخلصاً وواسطة بين الناس والخالق لا تردّ وساطتها، والمفاجأة الكبرى تكمن في سماع الناس يصرخون متسائلين: «من أين أتى الفكر التكفيري، وكيف غل في مجتمعاتنا».

إن اختبار النور يدفعنا إلى إدراك الظلمة، ومعرفة الحق تكشف لنا الباطل، وكذلك فإن احتواء القلوب للإيمان يظهر لنا معنى الكفر، لكن السؤال المحرج الذي لا يجوز إهماله ولا بدّ من الإجابة عنه هو: «عن أي إيمان نتحدث وعن أي كفر؟».

إن أساس ظهور فكرة التكفير كان لعلّة غموض إدراك الناس معنى حقيقة الإيمان، وتناسى العقائديون أن دفع الناس بلا مؤيد عقلاني لتبني نهج حياتي بزعم أنه أمر إلهيّ يثاب أو يعاقب المرء على تركه أو على تبنيه ويؤيد بمؤيد الترهيب والترغيب هو ما أنشأ شذوذاً لدى مدعي الإهتمام بتطبيق هذا المنهج الحياتي، وهو ذاته ما دفعهم إلى نعت كل مخالف لهم بالكفر.

هذه حال الغريزة البشرية المنافسة، تعادي من يخالفها أو يزاحمها على فكرة تعتقد صوابيتها حباً بالتميز والتفوق، إنها حالة تختلف عن المظاهر العقلانية عندما تحضّ على المحاكمة والتمحيص والتبيّن.

أجزم أن التكفير لم يقتصر على مجموعة دون أخرى من البشر ولا ظهر في شريعة بخلاف غيرها، فالجميع من مدّعي الإيمان يملكون القدرة على إطلاق حكم التكفير على المخالفين، وهنا كان واجب الانتباه عند الحديث عن التكفيريين إلى أنهم لا ينتمون إلى شريعة واحدة محددة، بل هم موجودون في كل الشرائع السماوية والأرضية على حدّ سواء.

اعترض علينا أحد أساتذتنا في استخدامنا لفظ «الأمة الإسلامية» متسائلاً عن ملامح تلك الأمة الإسلامية المزعومة، وللوهلة الأولى وافقنا الغاضبين في غضبهم على ما آلت إليه حال الأمة من خروج على مبادئ الفطرة الإنسانية الحسنة وانجراف نحو الرغبات البهيمة وتكريس شرعة الغاب، وسايرناهم في تساؤلهم عن تلك الأمة الإسلامية من قبيل جلد الذات الساعي إلى إصلاح الحال، غير أن معرفتنا بأن الأمة الإسلامية لم تكن يوماً مقتصرة على أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله يجعلنا متمسكين بانتمائنا إلى أمّة أوجدها القدير وفصلها على المزايا الحسنة، ووحّدها على معرفته السامية ثم نوّع مشاربها لغاية التفاضل في العلم، على أمل أن يولد ذلك رغبة دافعة نحو التطور ويفتح باباً في اتجاه الصفاء والارتقاء.

الأمة الإسلامية لا تفترق عن الأمة البشرية المعترفة بوجود قدرة عليا أعلى من أي قدرة بشرية تحكم هذا الكون وتدير مقاليده، هي أمة البشر جمعاء وإن تعددت شرائعها المنزلة إليها من القدرة العلوية.

كان ابراهيم الخليل أباً للأنبياء جميعاً، وهو من أطلق على الملتزمين بمعرفة الخالق الأعلى تسمية المسلمين قبل أن يكون موسى أو عيسى أو محمد صلى الله عليهم أجمعين: «وجاهدوا في الله حق جهاده هو إجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير» الآية 78 من سورة الحج . وأكد على هذا الانتساب والتصنيف ما أورده يعقوب في سؤاله إلى بنيه وجوابهم له بما ذكره القرآن في الآية 134 من سورة البقرة: «أم كنتم شهداء إذا حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون».

فإذا كان الإسلام أنْ تسلّم بأمر تعتقد بداهته، فإنه وبمجرد أن تسلّم بحقيقة وجود القدرة العلوية سيكون اسمك مسلماً، في وقت تبقى قضية الالتزام بشريعة دون أخرى لملاءمتها واقع المرحلة الحياتية التي يعيشها الإنسان أمراً لاحقاً وثانوياً.

لقد أهملنا في نضالنا الحزبي الجانب الديني عند الترويج لفكر البعث والسعي إلى بناء الدولة العربية المنشودة، رغم أن عقيدتنا البعثية لا تقوم إلاّ على أساس التوافق بين المعتقد الديني الفطري السامي وتطلعاتنا المادية ورغباتنا في تحصيل التقدم والرفاهية.

إذا اعتبرنا أن اللغة العربية هي حاملة فكر الإنسان العربي، وأن الإنسان في حاجة إلى حصيرة جامعة بينه وبين الآخرين عند التواصل تمكنه من الفهم والمعرفة ومن تحديد نوايا الآخرين، صار العربي في فكر البعث هو من كانت لغته عربية، ولطالما كانت اللغة العربية فخر العروبيين وأساس وجودهم مرتبطة ارتباطاً لصيقاً بالقرآن الكريم، سيد اللغة العربية وصائغ بلاغتها وناسج لوحاتها والمحافظ عليها.

و إذا كان الإيمان بالعروبة يستوجب بداهة الإيمان باللغة العربية، فقد كان الأوجب أن نشيع ونوضح للعامة أن الإيمان باللغة العربية يستوجب حتماً الإيمان بالقرآن، معجزة محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، ما يعني أن إنكار العروبة والكفر بها يؤديان إلى إنكار القرآن ومن آتى به ومن أنزله على نبيه.

إنها ليست فكرة صالحة للترويج لفكر البعث فحسب، بل هي حقيقة أصيلة في المعتقد البعثي، الذي كان همّه وهدفه استمرار الإنسانية وفق الفطرة الرحمانية الأولى.

لعلّ عتات قريش ومشركوها هم أول من استخدموا لفظة الكفر عندما نعتوا محمد بن عبد الله بالكافر إذ رفض عبادة أصنامهم، لكن الثابت أن التنافس السياسي الحاصل بعد وفاة النبي محمد وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة الجمعية دفع أم المؤمنين عائشة إلى أن تقول عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان: «أقتلوا نعثلاً فقد كفر». إنه التسجيل الأول عند مستوى سياسي كهذا في عهد الإسلام يستخدم مبدأ التكفير لتحقيق مصلحة معينة.

سيردّ علينا البعض ويذكرنا بأن حروب الردة كانت أسبق بين أصحاب محمد ويحاججنا البعض الآخر بأن بداية المأساة كانت عندما كفّر قابيل هابيلاً، وسنقول لهم إن الانشقاق الحقيقي بين أصحاب محمد لم يكن عند تمرد الأقلية على الأكثرية بل كان في لحظة ارتفاع صوت المنفعة بين الأفراد المتبقين من الصف الأول لقادة الدولة الإسلامية، وتبعته مباشرة تلك الحروب الكبرى التي أخذت معها ألوف المسلمين.

نستند إلى هذه الرواية من منطلق المقاربة التاريخية لا العقائدية، وبعيداً عن الجدال الدائر حول من بغى في ذلك العهد وما قد حصل بعد مقتل عثمان بن عفان، فقد انطلقت الشرارة الفتنوية وأعلن ظهور «الإسلام السياسي» لتُدمرَ حقيقة الالتزام العقائدي في نسيج المحمديين، فأنشأ كلّ طرف ذي مصلحة من المستندات العقائدية ما يوافق مصلحته، فطغى الإجتهاد تارة، والتأويل طوراً، وقامت معركة تأكيد رجحان أحقية المصالح بين المتحاربين، بعيداً عما هو مفترض أن يكون واجب الاتباع من أوامر ونواهٍ رحمانية.

ورغم أننا ندرك مدى حساسية الموقف، إلاّ أن السكوت والمواربة لم ينقذا الأمة سابقاً، ولا مجال للإعتقاد أنه سبيل إلى إنقاذها لاحقاً في خضم جريمة كبرى مستمرة ترتكب في حق الإنسانية المجردة.

في مراحل متلاحقة، وبعيداً عن نظرية المؤامرة والعمالة، ظهر من بين مدعي الإسلام ومن لا يمتون في حقيقة الأمر إلى الإسلام بصلة من شدّ أزر المتحاربين، متسلقين على أكتاف الإسلام لتحقيق منافعهم الخاصة طالما أنها متوافقة مع منافع المتحاربين على الصدارة ومصالحهم.

هناك من سعى بكل عزيمة ليقلب مفهوم الإسلام وسياسته إلى مفهوم «الإسلام السياسي»، فلم يبق الإسلام إسلاماً، ولم تبق الكلمة جامعة، وصارت المصلحة أو المنفعة تدير المعتقدات بدلاً من أن تكون المعتقدات تدير المصالح، واستبدت جماعة الإسلام السياسي على منتهجي «السياسة الإسلامية».

هكذا كانت الإسلاموية الحمقاء، وهكذا استغلها الإنتهازيون، وهكذا تجلت بدع الإجتهاد والتفسير لمصلحة كُتّاب التاريخ المنتصرين بسفك الدماء وانتهاك المحرّمات، كوسيلة بديلة من العقل وسبيلاً مغايراً للإصلاح.

سجل التاريخ على طرفي نقيض إلى جانب الأحاديث الرنانة عن الفتوحات الإسلامية الكثير من الويلات والجرائم التي ارتكبت في حق المخالفين، ليبقى ما فعله بنو أمية وبنو العباس بالناس وببعضهم وبآل بيت نبي الإسلام محمد بن عبد الله لإرساء حكمهم غيض من فيض ما ارتكبه سلاطين آل عثمان، والاطلاع على فتاوى قرضاوي المدعو عصرذاك أحمد إبن تيمية والذي قال عنه كبار العلماء إنه كافر مارق مدلّس وليس له في العلم من شيء، كافٍ لجعل كل منادٍ بالتسامح والمحبة والوفاق يجنح نحو إنكار ما سجّله تاريخ المتديّنون سالفاً.

هكذا، وعلى نول شيخ التكفير أحمد بن تيمية، نسجت أقذر شخصية في تاريخ البشرية المجرم محمد بن عبد الوهاب، المجهول النشأة والأصل أفكارها الهدامة، ليدخل على شرعة المحمدية ما لا سبقَ ولا سلف ولا ذكر من قذى عين، ووقر أذن، وتمزيق قلوب البشر من فجور وأذية واستباحة حرمات وقتل وسفك دماء، كأن التعاليم المزعومة المنسوبة إلى الإسلام زوراً وبهتاناً جاءت لتقتص من البشرية جمعاء.

هذه صورة لأمة البشرية التي ابتليت عبر تاريخها بالكثير من المجانين، وظلت صامتة عن ظلمهم وإسفافهم وسفاهتهم.

إنها سيرورة حتمية لمقدمات سابقة توجّس العقلاء الخوض فيها، وها هي النتائج اليوم تفيض علينا من كل حدب وصوب، فالإجرام كلّه، موجه اليوم ضد الطائفة البشرية المخالفة في الرأي لمعتقدي أحقية إباحة سفك الدم بفتوى التكفير.

اليوم ونحن نعيش «ربيع» الدجال، تتحفنا الشياطين بما ورثته من أبائها الأولين لتعيث فساداً ودماراً في ظل صمتنا المستمر عن قول الحقيقة، حقيقة لا بد من شجاعة مطلقة كي نصرح بها ونوضحها بعد كم المآسي التي تعرضنا لها وكادت تودي بنا وبحضارتنا وتاريخنا ومستقبلنا وبالكون كله إلى هلاك شامل.

لم يبق الأمر مخفياً عن أحد، وبات واضحاً مثل نور الشمس أننا بنينا جزءاً غير قليل من ثقافتنا على أباطيل، وارتكزنا في أفكارنا على مرجعيات زائفة أو في أقل تقدير مرجعيات لم تك مؤهلة ليؤخذ منها ما يناسبنا لبناء الإنسانية.

الحقيقة أننا لجأنا إلى عدونا الأوحد هو الجهل، كي يرضى عنا السطويون من الجهلة والمتنفعين. ضللت الأمة أو ضلت عن معرفة عدوها عبر قرون طويلة، وصار لزاماًُ علينا أن نوحد معرفتنا لذلك العدو، وأن نحدّده بما لا يقبل التأويل، وأن نجيّش البشرية لحربه التي لا بد من خوضها.

إنها حاجة وضرورة لمن يريد إنقاذ ما تبقى فينا من إنسانية. لا بد من رص الصفوف في مواجهة ذلك العدو الحاقد على جميع الأطياف والمذاهب والشرائع. إنها حرب الإسلام في مواجهة التكفيريين، وحرب الحق في مواجهة الباطل، وحرب النور في مواجهة الظلام، وحرب العلم في مواجهة الجهل. حرب ضد فئة آمنت على مساحة البسيطة بفكر الإلغاء وبمجابهة فكر القبول والتسامح ومعاداته.

قد يبدو كلامنا متطرفا بقدر تطرف الأعداء، لكن الضرورة في الدفاع عن فكرنا البعثي وانتمائنا الإسلامي البشري تحتم علينا أن نميز بين «الإسلام السياسي» و»السياسة الإسلامية»، وأن نزرع في أذهان الأجيال القادمة أن الكون منقسم إلى طرفين لا ثالث لهما، طرف الحق وطرف الباطل، وبين تعريف الحق والباطل وتحديد المفاهيم تكمن التفاصيل المربكة.

لن نجافي الحق إذا قلنا إنّ أهم أسباب انتهاج فكر التكفير هو الحقد الذي يتولد في النفوس وينمو بلا رقيب أو علاج، والمعني في قولنا هذا ليس الحقد على الآخر بسبب التفوق فحسب، بل إن الطبيعة البشرية تمنح فرصة تخفيف الشحن النفسي فيما لو حجبت تلك الفرصة، والفشل التابع لإعطاء الفرصة سيكون أقل تأثيراً في نفوس المحبطين عند الفشل الحاصل نتيجة حجب الفرصة، واهتمام الدولة والمجتمع بأمر الجميع حتى الفاشلين منهم سينمّي فكرة التعايش مع الحالة المزرية لكل قليل قدرة، ويرفع معدل ثقة الإنسان بالمجتمع، ما ينعكس إيجاباً على تقبل الفرد لما يوافق عليه المجتمع، وهذا أمر متوافق مع مقولتنا عن شخصية الأمة العربية والإسلامية على حد سواء والواضحة في كونها متجددة وقابلة للانبعاث ومتفهمة لفكرة المواطنة الصحيحة.

إن مشكلتنا الدائمة تظهر عند والبحث في كيفية الوصول بالمجتمع إلى حالة الاهتمام القصوى ورفع الإحساس بتحمل المسؤولية؟

المؤكد أن للعدل والمساواة وعدم تمييز شخص على حساب شخص آخر الدور الأعظم في تطور المجتمعات، فأساس العدل أن تكون الناس سواسية في نظر القانون وفي نظر الشرع. ألم يقل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله بأنه أهلك الذين من قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وقد أقسم أنه لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها. تلك هي قوة العدل التي لا تشبه في أي شيء عدل القوة.

إن البناء المتكامل يبدأ من العناية بالتفاصيل الصغيرة، ليبقى الشكل النهائي الكبير نتاجاً للإهتمام بالتفاصيل وفق خطة شاملة لبناء المجتمع.

لذا عندما نقول إن أساس التكفير هو الجهل لمعنى الإيمان، وإن معركتنا الحقيقة هي ضد هذا الفكر المقيت، وإن نضالنا يجب أن يكون لإيجاد السبل الصحيحة للإنتصار عليه، فإنه لا مجال للتراخي في إعادة صوغ التاريخ المكتوب وتنقيحه من الأفكار الهدامة. والواجب أن نوحد جهودنا الفكرية والإعلامية في إقناع العامة بوحدانية العدو المتربّص بنا.

إن الجهل أخو الفقر، ومن لا يملك قوت يومه سيكون سهل الوقوع من ذاك المكتفي، وهذا لا يعني أن الاكتفاء المادي وحده هو سبيل الخلاص، فالاكتفاء المادي بلا وعي ودراية سيوصلنا إلى أن يصبح الإنسان سلعة في سوق النخاسة، يشرى ويباع لمن يدفع السعر الأعلى.

إن صوغ مفاهيم جديدة خاصة بأمتنا تناسب المعاني الأخلاقية وتنبذ المعاني الخلافية سواء على مستوى العقيدة أو على مستوى المصلحة سيكون منجزاً ومفيداً. علينا إعادة صوغ قواعدنا الأخلاقية وتنقيتها من الشوائب وفق متطلبات هذا العصر، وتلك الأسئلة العالقة التي هي أساس الإدراك الخاطئ. لا بدّ من تبني معنى اتفاقي عنها وترويجه لدى العامة.

من هو السلف الصالح المزعوم؟ وما هو المقبول والمرفوض بين المسلمين؟ وهل استطعنا فعلاً أن نحقق العدالة وفق المفهوم الديني للعدل؟ وكيف توافق ذلك مع متطلبات الحياة الحديثة وتطوراتها؟ كيف يكون الفرد مواطناً ومتى تنتفي عنه تلك الصفة؟ ومتى يتوجب إنزال القصاص في حق المخالفين في ظل معرفتنا بأن عقول الناس وهمتها لا تتساوى؟

إنها مجموعة من المطالب الملحة الواجبة البحث والإصلاح، ولا يكفي أن ننسج ونبني في جزئية ونؤجل بناء الجزئيات الأخرى، فتلك معركة على الجميع أن يشارك فيها بلا استثناء مع مراعاة نبذ المهملين والمتجاوزين، فعندما يتحد المجتمع على هدف واحد وعلى عدو واحد وعلى قيم واحدة تصبح الطريق واحدة ويصبح الجهد منتجاً.

سمعنا كثيراً عن أهمية الاختلاف بين العامة لأجل الإرتقاء، غير أن الاختلاف غير المضبوط والمتروك على غاربه أودى بنا إلى الهلاك، فمعنى الرأي الجمعي هو أن يتم التقريب بين أفكار الناس للوصول إلى التقارب، لا أن يؤخذ برأي دون رأي آخر، أوعزل رأي ما عن باقي الآراء.

إنه جهد لأجل توفيق الآراء وتوحيد المصالح، ونبذ الرديء منها والحضّ على الطيب، وتلك ثقافة مجتمع بكامله. لا بد من إعادة تطهيرها من دنس الأفكار الدخيلة وفي هذا تتحقق نهضة الأمة. لا يكفي الحديث عن ذلك في المجالس، بل يجب أن يلزم رجال الدين، خاصة في خطب الجمعة، بكلمة واحدة موحدة. يجب الانتباه إلى مدرسي التربية الدينية في المدارس وانتقائهم بعناية فائقة، والاستعاضة عن مادة التربية الدينية بكتاب جامع للأخلاق.

لا بدّ من التنبه لثقافة الأطفال والأجيال المقبلة، وتنقيحها من رواسب المرحلة الراهنة، والانتباه إلى أدق وأصغر تفاصيلها.

إنّ الحاجة ملحة إلى تسخير الإعلام بأدق تفاصيله لضخ ما يلزم لتكوين رأي عام إنساني إن لم يكن مشتركاً فعلى أقل تقدير متقارب بين العامة.

لا يضيرنا عندما نتحدث في فترة مقبلة عن عدو مشترك تتحد القوى الشعبية للقضاء عليه، أن يرافقه فكر إصلاحي يدفع العامة للإيمان بالدولة ووجودها.

لا نريد ونحن الناهضون من صميم الأرض والتاريخ أن يحل بنا ما حل بغيرنا من فشل، ولا يجوز أن نتخذ الخائبين في تجاربهم معياراً لمدى نجاحنا، ولا أن نخدر أنفسنا بدعوى أننا محصنون عما وقع فيه غيرنا.

ثلاثة مواقف :

الأول: يقول مفتي الجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون إن يوم عاشوراء كانت فيه مأساة الأمة الإسلامية، بيد أن المتابع اليوم لحقيقة ما حصل على أرض الشام يعلم أن المأساة الحقيقة للأمة كانت عندما أعلنت أول ثورة في الإسلام ضد عثمان بن عفان، ومن حينها وحتى الآن تركت الأمور على أهواء معتقديها، فليس من يجرؤ ليقول إن عثمان أخطأ، أو أن من ثاروا على عثمان كانوا المخطئين، ولا من تجاسر ليعلن أن أم المؤمنين التي طالبت بالثأر لدم عثمان هي ذاتها من حرضت الناس على قتله بعدما أعلنته كافراً.

الثاني: طبّق أصحاب نظرية التسامح نظريتهم على واقع مضطرب، فكانت النتائج كارثية عند المواجهة مع قوى الشر، وأبسطها أن هناك من تجرّأ على الإنسانية فصلب المسيح بن مريم على رؤوس الأشهاد، وذبح الأنبياء والأتقياء، وعودي الرحمانيون، وكانت مهزلة كبرى أن نبادل الشر بالخير. إنها تجربة فاشلة حقاً.

بعد ذلك كان الدور لمنظّري فكرة الردّ على الشر ومحاربته بالقوة ليظهروا صدق نظريتهم، فأُعطوا فرصة الممارسة والتطبيق، وقاتل محمد بن عبد الله بحرب ضروس، وعزل الأشرار إلى حد الوصول إلى إنهائهم، غير أنّ حُسن النوايا التي كانت لا تزال هاجساً في قلوب الكثير من متبني فكرة التسامح أقعدت المعتقدين بضرورة المواجهة عن إكمال حربهم، ليتنفس المنافقون الصعداء بلا حسيب أو رقيب وليعود الجشع والطمع. هكذا انتهت الأمور إلى ما منه بدأنا، وكما أثبت التسامح أنه غير ذي جدوى عندما يصبح الوجود هو المهدد، كذلك أثبت التراخي أنه مؤذٍ وكارثي.

الثالث : من الجيد أن نتساءل ونستفهم. هل أصاب أحدنا العجب والذهول ونحن نتابع أولئك المؤمنين بالدولة؟ وهل سألنا أنفسنا من أين لهؤلاء القدرة على الصمود وأن يقاتلوا على خطوط الإشتباك وهم محرومون من الكثير من مستلزمات الصمود والاستمرار؟ إنني أعجب لمقاتل لم يشاهد أسرته منذ عدة أشهر كيف يستمر في القتال وهو يرى أن حقه في إجازة خاصة قد جيّر إلى صاحب نفوذ أو حظوة آخر، وأن رغيف خبزه يسرقه من لا ينتمي إلى جنس بشري.

لأنّ الحياة نسيج متكامل يتفاعل في تفاصيله كلّها، بعضها مع بعضها الآخر، فلا ضير في الاتعاظ من تجربة معادية كادت تنجح بعد نحو مئة عام من الاشتغال عليها في الظل. إنها تجربة جماعة «الإخون المسلمين» التي استطاعت أن تستبيح عقول جيل كامل لا يجوز إنكاره من خلال أقوال أو أفعال كنا غافلين عنها كما ثبت من واقع الحال الجاري :

يقول محمد الغزالي في كتابه «من معالم الحق» الصفحة 263 و264: «فلم يشعر أحد بفراغ الميدان من الرجولات المقتدرة في الصف الأول من جماعة الإخوان إلا يوم قتل حسن البنا في الأربعين من عمره. كان في الصفوف التالية من يصلحون بلا ريب لقيادة الجماعة اليتيمة، ولكن المتحاقدين الضعاف من أعضاء مكتب الإرشاد حلوا الأزمة أو حلت باسمائهم الأزمة، بأن استقدمت الجماعة رجلا غريبا عنها ليتولى قيادتها».

جاء في كتاب الله العزيز، في سورة البقرة، الآية 44 قوله تعالى: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وانتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون»، إن اللبيب من الإشارة يفهم.

محامٍ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى