أعمال فرنسوا أندريه فنسان تخرج من العتمة إلى الضوء في معرض فرنسيّ
يحتضن متحف فابر في مونبولييه معرضاً لفنان فرنسي كان في عصره علامة بارزة لكن النسيان طوى ذكره، ولولا مؤرخ الفن جان بيار كوزين الذي أعاد إليه الاعتبار عام 1986 في مقالة مطولة في مجلة «معرفة الفنون»، ونبه إلى قيمة أعماله المتناثرة، خاصة تلك التي لا تحمل توقيعه، لظل في رديم مهمل.
هذا الفنان هو الفرنسي فرنسوا أندريه فنسان 1746 ـ 1816 الذي برع في الرسم وجرب مختلف أنواع التقنيات في سائر الأنماط، ولم يستثن منها حتى الكاريكاتور، وترك أعمالاً كثيرة ضاع معظمها منذ مطلع القرن التاسع عشر.
ينتمي فانسن إلى الجيل الذي شهد بروز جان أونوريه فراغونار وجاك لوي دافيد، في مرحلة كانت فنون الرسم في فرنسا منخرطة في ما عرف بـ»العودة إلى الفخامة والحقيقة»، ذاك التوجه النيو كلاسيكي الذي كانت تقوده الإدارة الملكية منذ عام 1760.
أفاد فنسان في بدايته من نصائح أستاذه ماري فيين، وبعد أعوام التعلّم الأولى أنجز بين 1767 و 1768 لوحة متميزة هي عبارة عن بورتريه فنان في ثوب أسباني، عزاها المؤرخون في ما بعد إلى فراغونار، رغم أن أسلوبها كان أقرب إلى تقنية رمبرانت.
لم تمض سنة حتى فاز في روما بالجائزة الكبرى عن لوحة «جرمانيكوس يهدئ فتنة»، وهي عمل أكاديمي لم يتخلص فيه الفنان الشاب بعد من تأثير أستاذه. ولم تتضح بصمته الخاصة إلاّ عقب إقامته في روما بين 1771 و1775، فخلافا لدافيد الذي اهتم بالفروق الضوئية الداكنة على طريقة كرافاج، ليضفي على لوحاته قوة درامية غير مسبوقة، آثر فنسان الفروق المضيئة والواضحة على الطريقة الرومانية والبولونية نسبة إلى مدينة بولونيا الإيطالية خلال القرن السابع عشر. كما حافظ على مقاربته الكلاسيكية، مستلهماً مادته من دراسته العميقة للفنون القديمة، اليونانية والرومانية، ثم آثار عمالقة النهضة، وخالط الفنانين الذين كانوا يعملون على هامش التيارات المعروفة، خاصة فناني الشمال، أي الفلندريين. هناك التحق به فراغونار، وجابا معاً أرياف روما ونابولي، وأنجزا معاً عدة لوحات، من دون أن ينساق فنسان وراء سلفه في أسلوبه ورؤيته الفنية. فور عودته إلى باريس، بدأ يهيّـئ لوحاته وفق المواضيع المتناولة، وكان يخطط لكل عمل ينوي إنجازه بدراسات واسعة، ومسودّات وتخطيطات دقيقة.
في أول معرض له عام 1777 قدم خمس عشرة لوحة تعكس موهبة فنان استطاع أن يلمّ بتقنيات فنون عصره ويصور من خلالها أعمالاً متميزة، مثل «بليزير يضطر إلى التسول» التي تعتبر من أروع الأعمال النيو كلاسكية في تاريخ الفنون الفرنسية. كما أبدع لوحات تاريخية، مسايرة لرغبة السلطة في إحياء الماضي، حازت إعجاب الوسط الفني مثل لوحته «مولي والمشاغبون» التي عرضها عام 1779، وتصور حلقة من التمرد الذي جدّ عام 1648، وألّف فيها بين التركيب القوي الجسور والبحث عن حقيقة تاريخية جديدة على هذا النمط من الرسم، كأنه كان يستبق طلب لويس فيليب الذي سيرصّع قصر فرساي بأعمال فنية كبرى وجداريات ضخمة.
عام 1785 أذهل الزوار بلوحتين تصوّران حلقة من التاريخ القديم، تناولهما بأسلوبين مختلفين، اللوحة الأولى كانت قريبة من أسلوب كارافاجيو مثلما رسّخها دافيد، أما الثانية فكانت أكثر توليفاً وصوغاً وحرفية.
أمام هيمنة دافيد على الساحة الفنية في تلك المرحلة، سعى فنسان الذي كان موزعاً بين بالتدريس والمناصب الإدارية، إلى التميز عنه بفتح طريق نحو كلاسيكية جديدة كثيفة الألوان، شهوانية المرامي وفي الأقل محببة إلى النفس. كما عاد إلى فن البورتريه فتناوله بحرية، أي دونما تقيد بالأساليب المعروفة، حتى 1815، آخر سنة في مساره الإبداعي.
هذه السلسلة من الأعمال، التي يتجلى فيها ببراعة ربطه بين المسافة والدفء، تحتوي على روائع كثيرة، كان للفنانة آديلاييد لابيّ غيار 1749 ـ 1803 تلميذته، ثم زوجته، دور مهمّ في بلورة أشكالها ومضامينها، مثل لوحة «غيذوم تِلْ» التي مهدت لظهور الرومانسية، وكذلك لوحة «درس في الفلاحة» التي جاءت تلبية لطلب خاص بين عامي 1795 و1798. وهي عبارة عن جداريات جمع فيها بين البورتريه والمناظر الطبيعية والمشهد الحيواني والترميز والاستعارة. ورغم حالته الصحية المتردّية التي منعته من تلبية طلبات كثيرة في عهد الإمبراطورية الناشئة في بداية القرن التاسع عشر، واصل الرسم حتى النهاية، بعيداً عن الكلاسيكية الجامدة، مستفيداً مما يفد من وراء الحدود من رياح تحديثية.
يعترف مؤرخو الفن بأن فرنسوا اندريه فنسان كان أستاذاً لامعاً واسع المعرفة، لكن انشغاله في التدريس وفي مناصب إدارية مهمة في ظل سائر الأنظمة التي تعاقبت على فرنسا في تلك الفترة، جعلته يعيش على الهامش، محسوباً على المدرسة الأكاديمية الملتزمة بقواعد صارمة، ثمّ ضمر اسمه قياساً بمجايليه مثل فراغونار أو دافيد. كما أن أغلب أعماله لا تزال مفقودة، ما يجعل مدوّنته منقوصة، رغم مساعي جان بيار كوزين للعثور عليها والتعريف بها وعرضها للجمهور، كما هي الحال في هذا المعرض.