وطن متخم بالنفايات… والحرتقات وماذا بعد؟
د. سلوى خليل الأمين
ترى لماذا أصبح صباحك يا وطني مغموراً بـ«عطر» زبالة عفنة كعقول من جعلوها تتراكم في لحظة سوء، أطفأت ضوء البلد السياحي الجميل، الذي أضاعوه بعبثهم وطمعهم، وقلة إداركهم وظنونهم القائمة على استغباء المواطن وهلاك الوطن.
فصباحك يا وطني… كان في ما مضى مجللاً بالحب والشعر والأدب والفن الراقي والموسيقى الأرقى والطبيعة الرائعة والأغنيات المذهّبة، في عصر ذهبي صدحت فيه فيروز بين هياكل بعلبك، وفي دمشق، فزلزلت النفس البشرية الأمّارة بالسوء، وردّتها إلى مواطن الخير والجمال والسعادة، والحب في الصيف كما في الشتاء، كما في كل الفصول العابرة مداراتها حوليات الحياة، التي التقطت عناصرها وأبعادها من طهارة النفوس المطوقة بحب الوطن.
أما اليوم فقد تحوّلت صباحات وطني إلى جرائم متنقلة، وسلوكيات متحرّرة من القيم والوفاء والمبادئ، تستفز مشاعر الناس بأساليب فاجرة، تعمل على إهمال قضاياهم اليومية، التي لا تتناسب مع تاريخ هذا الوطن الجميل، الذي أنشده وديع الصافي بالقول: لبنان يا قطعة سما، مع ما في السماء من طمأنينة وارتياح.
حالياً، نرى السماء في لبنان مكفهرّة، والشمس تئنّ غاضبة، بعد أن فقدت الكثير من شعشعانية أنوارها، والقمر عاتب لأنه فقد سحره في وطن الأرز، وفي مشغرة، وفوق كلّ التلال وعلى الدروب، بحيث لم يعد قمرنا بدر وادي التيم، ولا المعتلي بسحره كلّ مندرجات الجمال والروعة التي طوّقت لبنان في ما مضى بأنس الليالي المقمرات.
اليوم يا وطني يناضل بنوك ضدّ الزبالة، ويهملون العدو القابع على الحدود من دواعش ونصرة وتكفيريين وصهيونيين، إضافة إلى إهمال كلّ ما أفرزته الأيام المكللة بالإنماء المغلوط، والإعمار المزيّف من مشهديات، ترتفع اليوم أكوام زبالة ونفايات، يهمل حلها المسؤول السياسي، لأنّ روائحها لا تجرؤ على التغلغل من ثقوب نوافذ القصور العالية البنيان، التي تمّ بناؤها من عرق الناس وفقرهم واستغباء عقولهم.
ربما لم يدركوا أنّ الكيل قد طفح، وأنّ ورقة التوت قد سقطت، وأنّ من ناصرهم زمناً من أجل القبض والرعاية والحماية المزنّرة بمختلف الأفعال المسيئة والمشينة، باتت اليوم نسياً منسيّاً، لأنّ الجراثيم النافخة ميكروباتها في أكوام الزبالة، ودواخين المعامل الحارقة والمارقة، باتت أشدّ قتلاً وفتكاً من التصاريح والبيانات التي لقنوها لأتباعهم ومناصريهم، الذين غسلوا عقولهم وضمائرهم ولقنوهم الغباء درساً يمحو هيبة الوطن والدولة، حين الخداع والكذب والفبركات أصبحت استغباء موصوفاً للبنانيين كافة، بحيث لم يعد يجدي نفعاً صراخ الناس واعتراضاتهم ونزولهم إلى الاوتوسترادات، ومنع مرور السيارات عليها، مع نصب الخيم الاعتراضية التي أصبحت موضة العصر اللعين، في زمن المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال، الذي بات من الماضي البعيد، بحيث باتت القبائلية والعشائرية والمحازبية هي صفة هذا العصر المربك بأكوام النفايات وروائحها الكريهة، ناهيك عما تسبّبه من أمراض جرثومية ليس بالسهل مداواتها في ظلّ الفقر المدقع، وغلاء الدواء والاستشفاء، والموت على أبواب المسشتفيات.
فيا سادة الوطن القابعين على مقاعد هي للشعب ومن الشعب، إقرأوا وطالعوا واستكشفوا العالم من حولكم، وانظروا إلى المسارات الصحيحة التي تنتهجها الدول الراقية، من أجل تدوير النفايات وجعلها طاقة تدرّ ذهباً، يغطي بلا أدنى شك سلسلة الرتب والرواتب للموظفين والعمال، الذين تتاجرون بلقمة عيشهم وكراماتهم، وأعراض بناتهم اللواتي بتن يغادرن إلى دول الخليج بعد التخرّج مباشرة من أجل تأمين العمل ولقمة العيش… وهذا فعل لم نعهده من قبل في تاريخ التركيبات العائلية في لبنان على الرغم من تنوّعها الطبقي والطائفي والمذهبي.
السويد يا سادة الوطن تشتري الزبالة من دول أوروبية، لأنها علمت شعبها كيف بإمكانه فرز النفايات وعدم تجميعها بالشكل العشوائي من قبل الدولة، وبات المواطن السويدي مختصاً في تدوير الزبالة في البيوت، عبر ماكينات تركب في مطابخ البيوت والمؤسسات، تطحن فضلات الطعام والخضار، أما الكرتون والزجاج والبلاستيك وغيرها فيتمّ وضعها في أكياس خاصة، توضع أمام المنازل في مستوعبات توزعها البلديات على كلّ السكان بالتساوي، إلى حين مرور عمال التنظيفات المولجين بتجميع النفايات المفروزة حكماً بعد منتصف الليل، من أجل أخذها إلى معامل خاصة تعمل على حرقها وإنتاج الطاقة الكهربائية منها أي: «Wte System Waste To Energy»، يعني تحويل الزبالة إلى طاقة، وذلك عبر أكثر من 32 معملاً، موجودة على الأراضي السويدية، تنتج الكهرباء من النفايات، لدرجة أنهم باتوا بحاجة إلى الزبالة التي يضطرون إلى شرائها من الخارج، وما على مسؤولي لبنان حالياً سوى الاتصال بالحكومة السويدية من أجل بيعها نفاياتنا التي تتكدّس في الشوارع، دون التمكن من الوصول إلى حلّ جذري لتصريفها.
كلّ لبناني يعلم انّ مشكلة النفايات تفاقمت بفضل سياسة خصخصة عرجاء وملتوية، عملت على استفادة بعض المسؤولين مادياً من الشركة المنوط بها وحدها جمع النفايات من كلّ لبنان، دون النظر إلى المصلحة الوطنية العامة، التي من أسّسها المحقة، تحميل البلديات هذه المشكلة، تحت إشراف وزارة البيئة المختصة، بدليل ما يحدث حالياً من تناتش مصالح على المطامر، التي ترفض معظم المناطق اللبنانية وجودها في خراجها، علماً أنّ المسؤولية تقع على عاتق شركة سوكلين المستثمرة ومن يدعمها من المسؤولين السياسيين، حيث بفضل رعايتهم لها احتكرت هذه الشركة جمع النفايات وحيدة على جميع الأراضي اللبنانية، دون الدخول في منافسة مع شركات أخرى تعمل على تجنّب الوقوع في هكذا أزمة، ترهق الوطن والمواطن على حدّ سواء، وتمنع إيجاد الحلول والدراسات، التي تحفّز على إنتاج الطاقة المشبعة بالخير والنظافة والجمال في وطن الأرز لبنان.
السؤال هو: لماذا تحتكر شركة واحدة عملية جمع النفايات في لبنان؟ ولمصلحة من تمّت الموافقة على التلزيم الوحيد لشركة «سوكلين» والتمديد لها؟ وكيف يحق لسيارات «سوكلين» أن تجمع الزبالة في وضح النهار، وتعطل أحياناً السير عبر وقوف أرتال من السيارات خلف سيارة جمع النفايات، خصوصاً في شوارع العاصمة المكتظة، بانتظار تفريغ المستوعبات من قبل عمالها، دون احترام لوقت الناس المسجونين في سياراتهم، بانتظار الخلاص من بطء العمال، الذين يقومون بتأدية العمل بمزاجية لا تراعي الحق العام للمواطن بتسيير أموره؟ علماً أنه في الدول الراقية كأميركا وبلجيكا وفرنسا والسويد وغيرها من الدول التي تحترم حق المواطن في عدم هدر وقته، وعدم التسبّب بتلف أعصابه، يعتبر هذا الفعل مخالفة صريحة وتعدياً على حقوق المواطن التي كفلها القانون، لهذا لا يحق لشركة «سوكلين» التعدّي على هذا الحق من خلال جمع الزبالة في أوقات العمل اليومي، وإنما عليها القيام به بعد منتصف الليل امتداداً حتى طلوع الفجر، كما يحدث في كلّ الدول التي تحرص على حماية شرعة الحق العام لمواطنيها.
بصريح العبارة، ماذا بعد؟ هل على المواطن الخضوع والاستسلام لأن لا قيامة لوطن يحتقر فيه المسؤول حق المواطن في العيش بسلام وأمان ونظافة على أرض وطنه؟ وهل استمرار التسلط المادي والمعنوي الذي يمارسه المسؤول الممدّد لسلطاته يعبّر عن استغباء الناس واحتقار إنسانيتهم كبشر، حين الحرمان أصبح أكوام نفايات أيضاً في لبنان، هذه النفايات التي أصبحت اليوم مثار نقاشات وجدل عقيم، حين العقول ضربها السوس والصدأ، وحين الأنانية الشخصية باتت هي المنطلق للعمل العام، وحين العقوبات لمن أخطأ مهما علت رتبه ومراتبه شطبت من النصوص القانونية، وحين القضاء العادل في حالة اندحار واستلاب مواقف، وحين مكانة لبنان كبلد سياحي جميل، وثقافي متميّز، أصبحت مصادرة من قبل فئة ترعى مصالحها الخاصة دون العامة، بفجور يعكس حرتقات مفتعليها من الشياطين والفاسدين، الذين لا يرفّ لهم جفن، أمام حالات الفقر والجوع والمرض، التي أصبحت تطاول معظم شرائح المجتمع التي يفوق تعدادها الـ80 في المشة، لهذا لا بدّ من الصراخ بالقول: وطن متخم بالنفايات والحرتقات… وماذا بعد؟