امرأة في الخمسين… ذاكرة المحو الذكوريّ
كمال الرياحي
تحدّثت روايات كثيرة عن التقدّم في السنّ أو الشيخوخة بأشكال مختلفة، من روايتَي ماركيز «خريف البطريرك» و«ذاكرات غانياتي الحزينات»، إلى «الشيخ والبحر» لهمنغواي، إلى روايات عربية كثيرة. لكن معظمها خاضها كتّاب رجال وتناولت الجسد الذكوري بصفته جسداً شبقاً، وبعضها نكّل حكائياً بهذا الجسد بصفته إحالة استعارية على السلطة، ومعادلاً رمزياً للنظام الاستبدادي.
أما الكاتبة العربية، فقد ظلّت تستبعد هذه الثيمة وقتاً طويلاً، ولم تجرؤ عليها إلا كاتبات قليلات، ربما لأنها المكروه النسائي. وتمثّل رواية «امرأة في الخمسين» لهيفاء بيطار، الصادرة مؤخراً عن «دار الساقي» ـ بيروت، واحدة من هذه النصوص التي تقلّب هذه السنّ الثقيلة، سنّ التقاعد الجنسيّ الذي يتهدّد المرأة في عمر الخمسين، مقابل المؤسسة الذكورية السرمدية القاسية.
تكتب بيطار رواية ذات نَفَس بسيكولوجي، منطلقة من نفسية امرأة الخمسين، وقد ساعدها اختصاصها في الطب لاقتحام هذه العوالم المظلمة والمسيجة حتى اعتبرت من المسكوت عنه في السرد النسوي.
تمثّل سن الأربعين السنّ المأزق لدى الرجل، سنّ النبوّة وسنّ مواجهة المصير واكتمال التشكل ومحاسبة الذات وبداية اضطرابات الأداء. فتكثر فيها الانتحارات والانفصالات والتحوّلات. بينما تمثّل سنّ الخمسين سنّ الخطورة الأنثوية أو شيطان منتصف النهار الذي تستفيق فيه المرأة على جسدها، وقد بدأ في الترهّل ودخول ما يعرف بسنّ اليأس.
في هذه المرحلة، تحاول المرأة التعويض، وتفنيد ذلك الواقع وإنكاره بالبحث عن اعتراف من الآخر. وعادة ما يكون أقل منها سنّاً كجزء من اكتمال الصورة النمطية الدارجة. لكن في رواية هيفاء بيطار، يظهر الرجل كمعادل ذكوري لحالة التوهّج مقابل حالة التراجع لدى المرأة، انطلاقاً من سنّ واحدة: الخمسين.
تعرّي بيطار حقيقة المؤسسة النقدية والإبداعية بصفتها مؤسسة ذكوريّة متخلفة مهما ادّعت من حداثة وتحرّر. وقد لخّصتها في الناقد المتوّج بأكبر الجوائز النقدية والذي قضى مسيرته يروج للأدب النسوي ومدافعاً عنه، غير أن ما ينظر إليه في كتبه ومقارباته النقدية، لا علاقة له بقناعاته في الحياة.
هكذا تكشف البيطار زيف الحداثة العربية باعتبارها قشوراً وأقنعة يرفعها بعض المثقّفين، بينما ترقد وراءها ملامح ذكوريّة دميمة، لا ترى في النساء إلا مشاريع عشيقات عرضيات في المَخادع.
فهذا الناقد يتباهى بعدد عشيقاته طوال الوقت، ويستغلّ سلطته الفكرية للإيقاع بهنّ، ويعتبر أنه يهديهن تلك اللحظات العرضية متبختراً في ثوبه الشهرياري الشهواني. وهو شخصية روائية أشبه ما تكون بشخصية الجامعي في أعمال الأميركي فيليب روث وعلاقته بطالباته، أو شخصية هنري ميللر في ثلاثيته السيرية «حيوان إيروسي».
اختارت بيطار أسلوب التداعي لتكتب حالة الاضطراب التي تعيشها المرأة وهي تواجه ـ بجسدها الذي أحالته إلى التقاعد ـ جسد رجل استعراضيّ يؤكد «فحولته» بشكل فجّ ومحرج. وهكذا ينتج الموقف حالة من الإرباك تطاول الأسلوب نفسه، فتسقط الراوية في تكرار المواقف والجُمل والأفكار، وكأن الشخصية فعلاً تكلّم نفسها من دون وعي ومن دون أن تنتبه لتكرارها.
فالرواية التي بدأت بقوّة في عثورها على المأزق: شرط السرد، والتي من المنتظر أن تتدفق وتنهمر بقوّة، تصاب فجأة بشلل يجعلها تهذي محمومة، تكرّر هواجسها كتلك الخمسينية المصابة بنوبات من الحرارة من التحوّل من مرحلة الخصوبة إلى مرحلة الجفاف.
تحاول بيطار «الطبيبة» أن تحلل الشخصية الذكورية انطلاقاً من الرجال الذين عرفتهم شخصيتها لتدين من خلالهم الذكر عموماً، ما يدفع بالرواية إلى خانة الكتابة النسوية التي تنهض على تصفية الحساب مع الذكر باعتباره عدواً ووحشاً فشلت كل محاولات أنسنته. ولم يدفعه تمسّكها بملكية جسدها إلا إلى النطق بكلمة «طلاق» لأنّ هويته الذكورية لا تتحقق ـ بحسب فهمه الرجولة ـ إلا في استعباد المرأة.
هكذا تلخّص البيطار الرجل في ذلك الكائن المستبد الذي لا يشعر بكيانه إلا عندما يحقق هدفه المتمثل في محو الأنثى بانتهاك جسدها وإذلالها وسلب روحها. ويصبح الطلاق بالنسبة إلى هذه المرأة النجاة بما أبقاه هذا الوحش من حطام أنثى، حتى تهتف فرحة «كم أجد متعة ومغزى أنّني تحوّلت إلى امرأة مطلّقة وأنا في الثالثة والثلاثين»!
غير أن تجربة الطلاق تفتح برنامجاً سردياً آخر لمقاربة الذكر اجتماعياً بعيداً عن الفراش، ليتحوّل إلى وحش اجتماعيّ يعمد إلى الانتقام من طليقته وأمّ طفله، لا بل تذهب الروائية بعيداً في مقاربة المجتمع كله باعتباره مجتمعا ذكورياً يدين هذا الكائن الجديد الذي اختزله في «صفة امرأة مطلّقة» أو «النعجة المريضة التي توسم باللون الكحلي لأنها مريضة».
بعدما تستنزف بيطار تقليب موضوعها وشخصيتها التي أنهكت ذاكرتها باسترجاع تجربتها مع الرجال، وتقديم تحليلاتها للشخصية الذكورية، تستنجد في منتصف العمل الروائي بنساء أخريات، «فابيولا» و«وفاء» و«ابتهال» و«كاتيا» و«فتون» و«نجاة» و«ريم»، وكلّهن يشتركن مع الراوية في المعاناة نفسها، ليشكّلن معاً جمعية نساء ما بعد الخمسين، ليعود السرد إلى تجربة كلّ منهنّ. غير أن تقنية تعدّد الأصوات بدت مفاجئة، وكان يمكن الاستعانة بها من بداية الرواية بالتناوب.
والحقّ، أن هذا البناء بدا مهزوزاً بعض الشيء لا يأتي بالجديد، خصوصاً أنّ الحكاية استُنزفت، ودخلت في الرتابة منذ أن رحل الناقد مع الصفحات الأولى والذي كان يمكن أن يكون الشخصية المؤهلة للاضطلاع بأدوار سردية مهمة تُخرِج الرواية من جمودها، ومن ملحمة الإدانة الكبرى، وخيال تصفية الحساب الذي يضرب أصالة الحكاية ويُفقدها طرافتها.
كما سقط من الروائية فجأة، ذلك النَفَس الساخر الذي استهلّت به عملها والذي أعطاه خصوصية، فجرفتها روح الإدانة إلى منطقة سوداوية حول العمل إلى شهادات ضحايا الذكورة، وسِيَر مجتزأة لنساء منكوبات من تجاربهنّ مع الرجل.
وتبقى الرواية خليقة بالقراءة لما تقدّمه من قراءة نفسية للمجتمع العربي الذكوري الذي اجتهدت الروائية في تعريته في ما يشبه العلاج بالصدمة.
ناقد تونسيّ