مقاربات التسويات السياسية في المنطقة وضوابطها
العميد د. أمين محمد حطيط
يكاد الحراك الدولي الأخير ينبئ بأن هناك مرحلة جديدة بدأت في المنطقة سينتظم الصراع والمواجهة وفقاً لعناصرها ومحدداتها، وهي إشارة لا تبتعد عن الواقعية والفهم الصحيح للأمور بعد الذي تم الوصول إليه في الملف النووي الإيراني والتفاهم حوله، ذاك التفاهم الذي – وبعيداً عن رأينا وتقييمنا له – يظهر كل طرف فيه بأنه نال ما يريد من مكاسب وحفظ ما يبتغي من مصالح، بما يجعل المعنيين به مباشرة كما حلفاءهم يتخذونه نموذجاً يرونه مناسباً للاحتذاء به في مقاربة أزمات المنطقة الساخنة والنارية، أي جعل التفاوض والحل السلمي طريقاً لحل النزاعات.
وفي الواقع فأننا نرى أن المنطقة اليوم في شكل عام وبعد الاتفاق النووي الإيراني، وما صاحبه من صمود على جبهات القتال خصوصاً في سورية وليس بعيداً عن العراق واليمن، أن المنطقة تتحرك للخروج من مرحلة كانت النار والمواجهات الميدانية فيها وسيلة المعتدي لفرض القرار والسيطرة، إلى مرحلة الإقرار الضمني بالعجز عن ذلك وتحول وظيفة النار الآن إلى الضغط ومواكبة المتفاوضين الباحثين عن حلول سلمية للأزمات القائمة. فنحن في واقع الحال أمام وظيفة جديدة للمواجهات الميدانية والنارية تتمثل في تمكين الأطراف التي اقتنعت وتتحضر التفاوض بحثاً عن حلول سياسية لتلك الأزمات، تمكينها من امتلاك أوراق قوة تفاوضية تمكنها من انتزاع ما تراه من مصالح وحقوق لها، لأن المفاوضات كما هو معروف مكان صرف وترجمة الواقع الميداني بنصوص عبارات تكرسه.
وفي هذا السياق ومع ابتعاد فرص الحسم العسكري لأي من الأزمات القائمة، وبعد فشل الإرهاب الذي توسلته أميركا في سياق اعتمادها لاستراتيجية الحرب الناعمة، فشله في تحقيق أهداف المشروع الصهيوأميركي، وبعد امتلاك محور المقاومة وحلفاؤه لعناصر قوة مضافة نتيجة حل المسألة النووية الإيرانية، وتقدم مجموعة البريكس في المواجهة في شكل يفقد أميركا بعضاً من أوراق قوتها والتي كان آخرها ورقة القضاء الجنائي الدولي الذي عطل بالفيتو الروسي في مجلس الأمن، بعد كل ذلك نجد أن من برمج ونظم العدوان على الشعوب وشن الحروب المتعددة العناوين والصيغ والأساليب بات يدرك وعلى رأسه أميركا أن سلوك الحوار والتفاوض هو السبيل الممكن لحل الأزمات القائمة وهو بذلك يلاقي المتضررين الأساسيين من تلك الحروب العدوانية بدءاً من سورية التي عملت منذ الأيام الأولى للعدوان عليها، من أجل حل سياسي يخمد النار فيها، ويحفظ لشعبها حقوقه وكرامته واستقلاله.
فالمرحلة إذن في توصيفها الرئيسي الجذري الآن هي مرحلة تهيئة البيئة للحلول السياسية بعد قناعة المعتدين بعجزهم عن تحقيق أهدافهم بالوسائل العسكرية، وقناعتهم أن وسائلهم الإرهابية تلك باتت تشكل خطراً عليهم بعد فشلهم في تنفيذ مآربهم. وإذا تذكرنا بأن مقومات منظومة العدوان على سورية والمنطقة تتمثل في شكل أساسي بأميركا وبعض أوروبا الغربية والمثلث الإقليمي السعودي القطري التركي، وأن مقومات منظومات الدفاع تتمثل في شكل أساس بمحور المقاومة ومن اقترب منه أو حاكى سياسته ومواقفه خصوصاً في العراق واليمن نستطيع أن نرسم خريطة ما ينتظر المنطقة في الأشهر الستة المقبلة ومواقف هؤلاء عبر دراسة واقعية تحليلية تقودنا إلى توصيف الحال وتحديد الضوابط كما يلي:
1 ـ بات الإرهاب معضلة الجميع وأن على من يعول عليه أن يتوقف عن استعماله. حقيقة سيجبر على الاعتراف بها من ابتدع الإرهاب واستثمر فيه منذ اللحظات الأولى للعدوان ولن يجدي أميركا نفعاً التلاعب على الألفاظ وتحريف المعاني والمصطلحات واستعمال عبارات المعارضة المسلحة المعتدلة وسواها والتلويح باستعدادها لتأمين الغطاء الجوي لحمايتها. فأميركا تعلم بأن سورية التي صمدت طيلة سنوات قاربت الخمس لن تتقبل هي ولا محورها وحلفاؤها فكرة منع الجيش العربي السوري من ملاحقة الإرهابيين تحت أي عنوان عملوا، بمن فيهم الإرهابيون الذين دربتهم أميركا وتريد أن تتخذهم على مشارف مرحلة البحث عن الحل السياسي ورقة تفاوضية.
2 ـ إن الحلّ السياسي المقبول والقابل للحياة هو الحل الذي يحترم إرادة الشعب، لا الحل الذي يفرض عنوة عليه بما يؤمن مصالح العدوان. وإن القوى المدافعة عن وجودها ومصالحها والتي قدمت في معرض ذلك أغلى وأهم التضحيات، لن تكون مستعدة للتنازل على طاولة التفاوض عما عجز الخصم عن انتزاعه في الميدان. بالتالي إذا خيرت بين التفريط بالحقوق والسيادة الشعبية أو الاستمرار في القتال في الميدان فأنها حتماً ستختار الثاني وهي تعلم أن الوقت ليس لمصلحة المعتدين.
3 ـ إن الحلول السياسية تصنعها الشعوب لنفسها، ويكون دور الخارج المساعدة في تهيئة البيئة وإنضاج المحاولة، بالتالي فإن المبادرات التي تطلق من هذا الطرف أو ذاك هي خريطة طريق يسلكها ممثلو الشعب للوصول إلى الحل ولا تكون قرارات وقدراً يفرض عليهم ويتجاوز إرادتهم.
على ضوء هذه المبادئ الضوابط، ينظر ويتم التعامل مع المواقف الأخيرة التي صدرت عن أعضاء منظومة العدوان وعناصر منظومة الدفاع، وعليه لن يكون لتركيا أو أي أحد آخر كذلك الحق بإقامة منطقة حظر جوي أو منطقة آمنة في سورية، وكذلك ليس لأميركا أي حق في مواجهة الجيش العربي السوري حماية للمرتزقة والإرهابيين الذين دربتهم، كما لن يكون للسعودية أي حق في احتلال عدن عبر ميليشيا ومرتزقة جاءت بها وأنزلتها هناك… كل ذلك وما يشبهه من تصرفات سيكون مرفوضاً ويشكل عدواناً غير معترف بمفاعليه وقد ينظر إلى التلويح به على أساس أنه محاولة لامتلاك أوراق تفاوضية لن ترقى إلى التنفيذ العملي.
فهناك حقيقة ثابتة يجب التعامل على أساسها أن عدوان المشروع الصهيوأميركي على المنطقة فشل وأن هناك منطقة جديدة تولد لن يكون الأميركي وأتباعه أسيادها بأن هناك عنصراً جديداً فرض نفسه فيها هو محور المقاومة الذي سعى منذ تكوينه لإقامة شرق أوسط لأهله في مواجهة مشروع أجنبي يريد إقامة شرق أوسط صهيوأميركي، وعلى أساس هذه الحقيقة ستكون الحلول السياسة المرتقبة والتي بدئ تلمس الطرق إليها، وهي على رغم أنها ما زالت بعيدة، فإن المرحلة الانتقالية التي ستفضي إليها بدأت فعلاً، ولذا تحولت وظيفة النار من نار للحسم في الميدان إلى نار في خدمة المتفاوضين، وكل قول آخر سيكون بمثابة غش للذات قبل خداع الآخرين.