النحّات ياسر صبيح: ثمّة صراع تاريخي مستمر بين من يريد إثبات الهوية السورية ومن يحاول محوها

يعمل النحات ياسر صبيح على النحت الواقعي الذي يعتبره ركيزة العمل الفني النحتي لدى أيّ نحات وأساس نجاحه، بغضّ النظر عن أسلوب التعبير والطرح، وهو يعتمد على ما يختزنه من معارف وعلوم هندسية وفراغية، وهو الركيزة الأساسية لتحقيق العمل النحتي الكامل مهما بلغت الحداثة في التعبير واختلاف الأسلوب، كما أن عملية بحث الفنان في صيغ النحت مستمرّة.

وعن بدايته في فنّ النحت يقول صبيح: بداية، أحببت طريقة النحت المباشر، وكان أساس الانطلاقة من مشروع تخرّجي في كلية الفنون الجميلة في دمشق، ويتكون من المواد التي تتحول إلى صلبة من الحجر الصناعي والتعامل معها بالطرح المباشر، ويكون البناء معمارياً يعتمد على أسس هندسية وتشريحية وتفصيلية.

لا طالبَ لعالم الفنون التشكيلية إلا ويملك ملكة الفن والاستعداد لتطوير موهبته، ولذلك كان اتجاه النحات ياسر صبيح إلى كلّية الفنون الجميلة هدفاً تلقائياً ومطلباً رئيسياً لما لها من أبعاد استراتيجية فعلية في بناء الحضارات أو التجمعات البشرية، والذي يقاس على أساسها نمو الفكر الإنساني وتطوره من خلال ما يعمل وينجز ويبني.

ويرى النحات صبيح أن مفهوم النحت مرتبط بمفهوم الأوابد والديمومة لأنه وثيقة تاريخية تسجّل مرحلة زمنية بشرية. وتابع: كل ما يذكر من عمارات منذ القديم وحتى حاضرنا في وقت قريب، أنشأه وبناه وأنجزه ووثّق مفهوم التطورات والأحداث عبر التاريخ، فنانون نحاتون معماريون، إضافة إلى نظام العصر الحديث. فبنية الأشكال المعمارية والصناعات الحديثة فيه تعتمد دراستها على الكتلة والفراغ وتقاس نحتياً وبصرياً ثمّ فيزيائياً.

وأوضح أن النحاتين السوريين موجودون عبر التاريخ ومنهم ابولودور الدمشقي المكنّى بِاسم مدينته الذي يتوسّط إنجازه أهم ساحات روما المرحلة الهلنستية وهي من أهم مراحل التاريخ الذي أبدع فيها الفنان السوري بتوثيق تلك المرحلة معمارياً ونحتياً. كما ان فنون الأرابيسك في إسبانيا والفترة الأندلسية تعجّ بالمَهَرة الفنانين الذين نُقِلوا من سورية إلى تلك المنطقة.

وتابع: سورية مهد الحضارات وبداية الوجود الإنساني، وكانت الانطلاقة من سورية في وضع حجر الأساس في بناء الأوطان والحضارات من بلاد اليونان أو الإغريق وقرطاجة وروما. والعالم يعرف ذلك. وهذا بالأساس الهدف الحقيقي من حربهم على سورية قبل الطاقة المتوفرة بغزارة في الأرض السورية. فهم يبحثون لمحو اسم سورية، اسم الشمس من التاريخ.

والفنان صبيح كان وما زال من الحريصين على قيام الملتقيات النحتية واستمرارها. وكانت بداياته في دمشق، ثم حلب واللاذقية، وكان ِأهم عمل له «الأمّ التي تحضن ابنها»، وهو تعبير عن سورية التي تحتضن أبناءها. وما زال العمل معروضاً في المدينة الرياضية في اللاذقية.

وفي مفهوم البحث عن النحات أو النحت السوري، يؤكد الفنان صبيح أن أعمال غالبية النحاتين السوريين تتعرض للإهمال. لأن، بحسب تعبيره، هناك صراعاً تاريخياً مستمراً بين من يريد إثبات وجود الهوية السورية، ومن يريد تعطيلها أو انهاءها أو أي من الأهداف المدمرة. وما يحصل في هذه الفترة أن عالم الفنون التشكيلية تتعرض أيضاً لتشويه ثقافي وجهل شديد بكيفية بناء اللوحة أو العمل النحتي.

وأشار صبيح إلى أن اتجاهه نحو النحت على الخشب يعود لأنه خامة طيعة وسهلة التنقل والحمل، وأصبح كل من يعرف استعمال الإزميل يقول إنه نحات. مكرّسين مواقع التنظير المشوه لعالم الفنون التاريخية، مبتعدين تماماً عن المفاهيم والأسس العلمية والهندسية والادراكات البصرية لأسس النسب حتى التقليدية في بناء العمل الفني مهما كان.

ويقول المدرّس المكلّف في كلّية الفنون الجميلة والهندسة المعمارية: نحن أمام مسؤولية تاريخية في إيصال رسالة وفكر ثقافي لجيل سوري واعد بمستقبل سورية الحديثة. وقد عملت ومجموعة من الفنانين المتميزين على صد هذا التشويه الذي يحصل. وما زلنا نحاول ونحاول. مضيفاً أن النحت عالم كبير وواسع والبحث عن الأسس الجديدة المتوازنة المدروسة في عالم تعدّد الأساليب التعبيرية، هو الذي سيعطي البعد الفني المستقبلي الصحيح.

ولا يتفق النحات صبيح مع البصمة الخاصة التي تميّز بعض الفنانين، لأنها برأيه توقف عن التطوّر في الخامة والعلوم والحركة، ويعتبرها بمثابة جمود وتكرار، وهنا يقع الفنان فريسة فكرة الطرح.

العمل الفني عند الفنان صبيح يبدأ بفكرة وفي هذا الاطار يقول: آلامنا كثيرة وقوامها الإنسان بجهاته الأربع، ويقوم مفهوم النحت لديّ على هذه المفاهيم والأسس بغضّ النظر عن المادة أو الخامة. ويجب أن يشاهد العمل النحتي من الجهات الأربع، وكل جهة تتعلق وترتبط بمفهومها كحركة فنية متكاملة مع بعضها والذي أقوله عندما يحتوي موضوع العمل عدة عناصر عدا اذا كان العمل موضوعه عنصر واحد بفنّ التصوير، نرى الكتلة والفراغ، لكنها تبقى مسطحة، غير أن النحت نتلمسه نبصره ندركه ونتعشق في حناياه.

ويرى صبيح أنّ عمل النحات المستمر وطرحه الدائم بكثير من التجمعات والنشاطات بغضّ النظر عن المكان وتحقيق أعلى نسبة مشاهدة، يكون قد أوصل نظام الفكر الفني، وتحققت الأهداف المراد لها. مشيراً إلى أن هناك أعمالاً نحتية تحمل في طياتها فكراً فلسفياً يحاكي الناس بطريقة تشكيلية مع المحافظة على دراسة القيم النحتية وتحقيق للتوازن والحيوية والرشاقة في العمل الفني، وأنّ هناك أعمالاً نحتية أخرى تزيينية تطرح صيغ الجمال وتسعد بها العين عند مشاهدتها. مؤكداً أن هناك جزءاً من الجمهور يريد القراءة السهلة والمباشرة للعمل مع غياب العمق بالتفكير بطبيعة العمل، وكل ذلك بسبب افتقار المراحل التعليمية المختلفة لدينا إلى هذا النشاط الفكري، وعدم اهتمام مجالس المحافظة والمدينة بها.

النحات ياسر صبيح من مواليد عام 1965 في قرية مركز الحضارات الإنسانية والتجمع البشري الذي رفد العالم عبر البحار بالصناعة والتجارة والعلوم، قرية ستمرخو ـ اللاذقية، وهو خرّيج جامعة دمشق ـ كلّية الفنون الجميلة ـ قسم النحت، وعضو مجلس اتحاد الفنانين التشكيليين في اللاذقية، ومدرّس سابق لدى وزارة التربية والتعليم العالي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى