ذكّر إن تنفع الذكرى بالمختصر المفيد
قبل خمس سنوات تماماً، وقبل أن تظهر أيّ بوادر لِما سمّي «الربيع العربي»، وفي تونس تحديداً، نشرتً هذا المقال في صحيفة «الشروق» التونسية، ولأنه يعبر بالمختصر المفيد عمّا رأيته قادماً إلى منطقتنا، ولأننا عشناه بتفاصيله خلال هذه السنوات، أعيد نشره من باب ذكّر إن تنفع الذكرى.
لا يخفى على أيّ متابع للشؤون الاستراتيجية في المنطقة، أن «إسرائيل» تواجه وضعاً حرجاً لم تعهده طوال السنوات الستين التي أعقبت نشأة كيانها في المنطقة. فللمرة الأولى، تجد «إسرائيل» نفسها محاطة بمجموعة من التحدّيات، التي لا تملك لها حلولاً سريعة مثلما اعتادت على مواجهة التحدّيات المشابهة في الماضي.
يشكّل وجود إيران كقوة صاعدة على المستوى التقني، وخصوصاً العسكري، أوّل هذه التحديات، معطوفاً على خطورة امتلاك إيران قدرة نووية قابلة للاستخدام العسكري لدى الضرورة، مسنوداً إلى خلفية عقائدية تجعل التفاوض والتفاهم مع إيران معضلة كبرى، وهي القارة الممتدة على مساحة ملايين الكيلومترات المربعة والمالكة مقدرات اقتصادية هائلة. وعلى ضفة أخرى تعايش «إسرائيل» تموضعاً استراتيجياً جديداً في وضعية تركيا التي لا يقيّدها وجودها في الحلف الأطلسي عن سياسة الانفتاح على قوى المقاومة في المنطقة، وتبني سياسات مناوئة لـ«إسرائيل» على خلفية التطلّع إلى لعب دور مرجعيّ مركزيّ في معادلات الجغرافيا السياسية في المنطقة.
وعلى جبهات المواجهة المباشرة، تشهد «إسرائيل» توازناً جديداً، يتمثل في التكامل بين قوة سورية العسكرية الصاروخية الرادعة لأيّ حرب عليها، وقوتها الناعمة التي نجحت في العودة المعززة إلى معادلات صناعة الاستقرار في المنطقة، بانفتاح من القوى العظمى واعتراف بسقوط سياسات الحصار والعزل التي استهدفتها لسنوات عشر ماضية. ومن جهة أخرى العلاقة الثابتة والراسخة بين سورية وظهيريها السياسي التركي والعسكري الإيراني، وطليعتها المتقدمة التي تمثلها قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، بعدما حققت هذه المقاومة نجاحاً في حجز مقعد ثابت على طاولة القوى الفاعلة في المنطقة، وصناعة الحرب والسياسة فيها بعد حربَي لبنان وغزة.
التعامل «الإسرائيلي» مع هذا التحدّي لا يتحقق بمناورات من عيار التفاوض الذي سيبدأ بين السلطة الفلسطينية وحكومة بنيامين نتنياهو، وهو تعامل يحتاج إلى خطوات دراماتيكية أشار إليها تقرير وزارة الخارجية الأميركية مطلع السنة، تحت عنوان «مستقبل إسرائيل في شرق أوسط يتغيّر»، مستنتجاً أن «إسرائيل» فقدت عناصر التفوق الاستراتيجي التي تمتعت بها طوال ستين سنة على المستويات الديمغرافي والعسكري والسياسي، أولاً بسبب نضوب موارد الهجرة مقابل تنامي العدد السكاني للعرب الفلسطينيين وسقوط فرصة الدولة اليهودية، وثانياً سقوط فرضية الحرب الخاطفة والحاسمة مع انتشار تكنولوجيا الصواريخ، وثالثاً تراجع منطق التفاوض بسبب عجزه عن تحقيق إنجازات مع إثبات المقاومة قدرتها على مواجهة «إسرائيل». والخطوات الدراماتيكية حسب التقرير الرسمي الأميركي، تتمثل في سلام نهائي وشامل يمكن أن تقبل به القوى العربية الفاعلة بما فيها قوى المقاومة، وما يعنيه ذلك من العودة إلى نصوص وثيقة بايكر هاملتون الصادرة عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري نهاية عام 2006، وما تضمنته من دعوة إلى قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين وفقاً للقرار 194، وعودة الأراضي اللبنانية والسورية المحتلة، والتسليم بدور سوري متنامٍ في لبنان والعراق، ودور إيراني في ملفات العراق وأفغانستان والطاقة وأمن الخليج بعد الاعتراف بإيران دولة نووية.
تدرك واشنطن قساوة الخيار الدراماتيكي كما ترفضه «تل أبيب»، ويجري التعاون على صناعة سيناريوات الكلفة الأخفّ، وتبدو الحرب المحدودة خياراً مرغوباً من الشريكين الأميركي و«الإسرائيلي» تحت ضغط روزنامة الانسحاب الأميركي من العراق، وهو انسحاب مهما قيل عن كونه شكلياً، وتبقى اليد الأميركية فاعلة في مستقبل العراق، سيطلق تداعيات لعلاقة عراقية أقوى مع الجارين السوري والإيراني.
تخشى «إسرائيل» تحوّل المربع السوري ـ التركي ـ الإيراني ـ العراقي بتحالفه مع قوى المقاومة إلى قوة صاعدة، لا يمكن إيقافها بعد الانسحاب الأميركي من العراق. وهو مربع يتعدّى تحدّيات مرحلة جمال عبد الناصر الذي تمكنت «إسرائيل» من مواجهته بالتحالف مع إيران وتركيا آنذاك، كما يتعدّى تحدّيات التفاهم السوري ـ المصري ـ السعودي الذي خاض غمار حرب تشرين 1973 والذي لا تقارن إمكاناته بالحلف الجديد.
ضرورة التصرّف بسرعة شعار الأشهر المقبلة في «تل أبيب» وواشنطن. ومع استبعاد الفرضية السياسية الكبرى لصفقة شاملة مكلفة أو مؤلمة كما يسمّونها، تصبح ضرورة الحرب هي من يبحث عن سيناريوات، والحرب المقبلة تتناوب احتمالاتها بين سيناريوات الحرب المحدودة على واحدٍ من تحدّيات الجوار سورية أو إيران أو «حزب الله» أو حركة حماس، وقد بات ثابتاً للقيادة «الإسرائيلية» أن خطر تحول أي من هذه الحروب المحدودة إلى حرب شاملة أكبر من القدرة على التحكم بساحتها وحجمها، ومنع الحريق الكبير من الاشتعال.
ثمة سيناريو ثانٍ لحرب مركّبة تتداخل فيها الرهانات على الحرب السرّية مع الحرب المكشوفة، من خلال تكامل عناصر التفجير الداخلي مع شنّ الحرب على جبهة معينة. وهنا تبدو ساحتا لبنان وغزة الأكثر قابلية عبر مشاريع الفتن المتنقلة، التي تطل برأسها لاستدراج قوى المقاومة إليها، وتفجير عصبيات طائفية ومذهبية وحزبية في وجهها، بالتزامن مع شنّ حرب محدودة بتوقيت مدروس.
يبقى سيناريو ثالث طيّ الكتمان، ويتمثل بالمخاطرة بحرب شاملة تبدأ باستهداف المنشآت النووية الإيرانية وتشعل المنطقة برمّتها، وتتعرّض «إسرائيل» خلالها لوابل الصواريخ من كل اتجاه، لكن التدخل الدولي يكون حاضراً للجم تفاقم الحرب بسرعة بعد تحقيق أهداف الحرب السريعة، والدعوة إلى مفاوضات شاملة لدول المنطقة لوقف النزاعات، وفرض حلول شاملة تكون في مضمونها قابلة للتسويق وتدفع خلالها «إسرائيل» بعضاً مما تسمّيه التنازلات المؤلمة، ثمناً لسلام شامل، والدخول في نادي الدول الشرعية المعترف بها في المنطقة، وشريكاً في نظام إقليميّ جديد يملأ الفراغ الاستراتيجي الناجم عن فشل الحروب الأميركية.
في دوائر «تل أبيب» من يتحدث عن سيناريو رابع يقوم على تسريع فتائل خطط الانفصال في المنطقة وحروبه، من كردستان العراق إلى جنوب السودان مروراً بلبنان وفلسطين واليمن، أملاً بنشوء دول أقليات لا أمل لها بالحياة، وامتلاك أسباب القوة في وجه جيرانها وبيئتها الطبيعية إلا بالتحول إلى امتداد استراتيجي لـ«إسرائيل»، تتغير معه طبيعة التحدّيات إلى فرص، فينتقل القلق إلى جبهة تركيا وإيران وسورية من مستقبل الدولة الكردية، إلى جبهة شرق أفريقيا والخليج ومصر من مستقبل التشقق العرقي والطائفي.
سنة حاسمة وحارّة في آن، والمنطقة تختبر واحدة من أدقّ لحظات تاريخها المعاصر، بما يدفع محللين كثيرين إلى الحديث عن أمر ما لا بدّ أن يخلف «سايكس ـ بيكو» التي رسمت جغرافيا ما بعد الحربين العالميتين، ليحلّ مكانها أحد شكلين جديدين، اتحاد الكثير ممّا قسمته «سايكس ـ بيكو» على طريق صناعة الاستقرار، ولو بصيغ عصرية لا تعني الوحدة الكاملة كصعود المربع السوري ـ التركي ـ الإيراني ـ العراقي، أو تقسيم المقسّم وولادة كيانات ودويلات تنذر بحروب أهلية تنهك المنطقة وتخلق نظائر وعصبيات تجعل الاستقرار بعيداً.