كنيسة «أمّ الزنار»… وللسوريين قيامتهم
لورا محمود
كثيرة هي المعالم الأثرية والدينية والفكرية التي لم تنجُ من المتطرّفين الإرهابيين على تنوع تنظيماتهم الأصولية. فمن العراق وتدمير الكنائس والأضرحة وأهم المواقع الأثرية لحضارة ما بين النهرين، إلى سورية حيث لم يسلم أيّ موقع أثريّ استطاعت المجموعات الإرهابية الوصول اليه، من الأسواق القديمة إلى المسارح التاريخية إلى المساجد والكنائس، خصوصاً تلك التي تعتبر من أقدم كنائس العالم. ومنها كنيسة السيدة العذراء «أم الزنار»، التي تعتبر من أعظم الذخائر المسيحية.
وبعد كل ما شهدته الكنيسة بسبب الإرهاب، عادت إليها الحياة وعاد «الزنار المقدس» إلى مكانه، و«بعيدك يا عدرا يا أمّ الزنار، رجع زنارك لولادك مزار»!
كنيسة «أمّ الزنار»، واسمها الرسمي كاتدرائية السيدة العذراء «أمّ الزنار»، من أشهر كنائس السريان الأرثوذكس. تقع في محافظة حمص وسط حي بستان الديوان العريق، أحد شوارع حمص القديمة. هي كنيسة تاريخيّة أثريّة ترقى للقرن الأول، ودعيت بهذا الاسم لوجود زنار ثوب مريم العذراء محفوظاً فيها.
كانت الكنيسة في أواسط القرن العشرين مقر بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، وغدت بعد انتقال الكرسي البطريركي إلى دمشق العاصمة، مقر أبرشية حمص وحماه للسريان الأرثوذكس.
تشتهر الكنيسة بنمطها المعماري الفريد، وقد استخدم الحجر البازلتي الأسود في البناء كجامع خالد بن الوليد القريب منها، فضلاً عن القناطر الحجرية.
تحت الكنيسة الحاليّة كنيسة تعتبر من أقدم كنائس العالم، وقربها نبع ماء يصل إلى عمق 20 متر. يلحق بالكنيسة مزار خاص يعرض فيه زنار العذراء. وفي 15 أب من كل سنة، وهو عيد انتقال العذراء، ينقل الزنار من الكنيسة ويطاف به في الشوارع المجاورة.
أجريت في الكنيسة عدة عمليات ترميم أكبرها في أواخر القرن التاسع عشر. ثم عام 1953 أيام البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم.
والكنيسة تعدّ مقر المطرانية السريانية ومركز حج هام لدى كثيرين من الزوار المؤمنين.
كانت الكنيسة أشبه بقبو تحت الأرض تتم العبادة فيه سرّاً خشية من الحكم الروماني الوثني. وبعدما أصبحت حمص مقر أبرشيّة، كانت الكنيسة كرسي الأبرشية الأسقفي وأقام فيها أول أساقفتها سلوانس قرابة أربعة عقود حتى وفاته.
بعدئذ، بدأ مسيحيو حمص تشييد كنيسة كبيرة فوق الكنيسة القديمة المحفورة تحت الأرض، واستعملوا في بنائها الحجر الحمصي الأسود، وسَقفوا الكنيسة بالخشب وإليها نُقل الزنار المقدس الذي كان محفوظاً بوعاء معدني ضمن جرن بازلتي، أما عمود الجرس أو «الجرسيّة» فقد بني في القرن السادس.
عام 1852، قام المطران يوليوس بطرس بترميم الكنيسة، فردم السقف الخشبي وبعض الجدران، وبنى الكنيسة الحالية القائمة على ستة عشر عموداً ضخماً منها ثمانية أعمدة وسط الكنيسة، والباقي ضمن جدرانها، وبنى في وسطها قبة نصف أسطوانية مزخرفة. أما الزنار فقد وُضع ضمن جرن بازلتي في وسط المذبح، ووُضِع فوقه حجر، ونُقش عليه بالخط الكرشوني تاريخ تجديد الكنيسة وأسماء المتبرّعين.
عام 1953 وخلال حبرية البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم، أخرِج الزنار المخبأ من وسط المذبح، وعُرِض في مزار صغير مجاور للكنيسة. وبعدئذ وُسّعت الكنيسة لجهة الغرب وأضيف إليها جناح.
من المعروف أن السيدة العذراء توفيت في فلسطين، فجنّزها الرسل القديسون بحفاوةٍ عظيمة، ودُفن جثمانها الطاهر في قرية الجسمانية التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى جسدها الطاهر والزنار الخاص بها رافقها في حياتها ودُفن معها في القبر، وفي الإيمان المسيحي والتقليد الأرثوذكسي بالذات، فإنّ مريم العذراء بعد وفاتها بثلاثة أيام، حمل الملائكة جسدها الطاهر إلى السماء، وأثناء صعودهم رآها القديس توما الرسول، الذي كان يبشر في الهند ولم يشترك في تجنيز السيدة العذراء، حيث تأخر وصوله إلى هناك، فرأى وهو في الطريق السيدة العذراء تصعد إلى السماء، محمولةً في موكب ملائكي. فأخذ بركة الجسد الطاهر، وطلب علامة يبرهن بها لأخوته التلاميذ عن حقيقة صعود العذراء بالجسد إلى السماء، فأعطي «الزنار المقدّس».
أخذ القديس توما الزنار معه عند رجوعه مرة ثانية إلى الهند، وصحبه في الأماكن التي تواجد فيها حتى وفاته، فحُفظ الزنار مع رفات القديس طوال أربعة قرون، ثم في أواخر القرن الرابع الميلادي وفي 23 أب سنة 394 ميلادياً، نقل هذا الزنار المقدس من الهند إلى «الرها» مع رفات القديس توما.
ثم نُقل الزنار وحده إلى كنيسة العذراء في حمص سنة 476 ميلادياً، إذ إن راهباً يدعى الأب داود الطور عبديني، جاء إلى كنيسة العذراء في حمص ومعه رفات الشهيد باسوس، وأيضاً زنار العذراء المقدّس. ومنذ ذلك اليوم، سمّيت كنيسة العذراء بِاسمه، فأصبحت تُعرف من ذلك العهد بكنيسة «أمّ الزنّار».
عندما دخلت المجموعات المسلّحة الإرهابية إلى حمص، تعرّضت الكنيسة والميتم التابع لها لأضرار كبيرة من تخريب وحرق. وخُبّئ زنار السيدة العذراء وأنقِذ هو والمخطوطات المسيحية الموجودة في الكنيسة، كما أنقِذ مذبح الكنيسة ومكتبة المطرانية وبعض الأيقونات الموجودة في دار المطرانية السريانية بجهود بعض الآباء الذين خاطروا بحياتهم، ونقلوا ما استطاعوا من محتويات الكنيسة إلى دير الآباء اليسوعيين. وعند عودة الكنيسة إلى الحياة، عادت ممتلكاتها إليها وجميع المخطوطات.
وبعد سيطرة الجيش السوري على منطقة حمص القديمة والكنيسة عام 2014، اهتم الآباء الكهنة والرهبان والشمامسة وشباب الرعية منذ اليوم الأول لتحرير الكنيسة، بإعادة تأهيل الكنيسة والمطرانية والميتم على رغم الدمار الكبير والتخريب الذي تعرضت له.
ومؤخراً، وثّقت وزارة السياحة عودة زنار السيدة العذراء والأضرار التي أصابت الأماكن السياحية والأثرية والدينية في حمص القديمة بمشاركة المجتمع المدني الذي بادر إلى التطوع في العمل إلى جانب الحكومة لإعادة إحياء المدينة.
ولأن السوريين مؤمنون بأن هذه الأرض لهم وتحتاج لعزيمتهم وقوة إرادتهم وإصرارهم على البقاء فيها، عادت الكنيسة إلى أفراحها، ودُقّت الأجراس من جديد حيث أقيم مؤخراً حفل الزفاف الأول في كنيسة السيدة العذراء «أمّ الزنار» بعد إعادة تأهيلها.