الرؤية الجمالية
صلاح بو سريف
على رغم حبّي لسقراط، الذي كان يخرج حافي القدمين، ويحاور الشبّان في أثينا، أو يسعى بالأحرى، إلى إثارة الشك في نفوسهم، في ما يعتقدونه ناجزاً، أو كلّياً ونهائياً، فأنا أميل في ما يتعلق بالصيرورة وانتقال الأفكار أو تحوّلها، إلى بروتاغوراس، وإلى السفسطائيين الذين كان سقراط لا يحبّهم، ومعه أفلاطون أيضاً، خصوصاً في ما يتعلق بإيهام الجمهور وخداعه، أو بما كانوا يتّسمون به من قدرةٍ كبيرة على قلب الحقائق وتحريفها، أو بقول الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، وتبريرهما معاً، أمام الشخص ذاته، وكأنه مشلول الفكر والإرادة في إدراك فرق المسافة بين حجّتين ورأيين.
فبروتاغوراس، هو بين من انتبهوا إلى أن «الإنسان هو مقياس كل شيء»، وأن أي اختلاف في رؤيتنا للأشياء، هو اختلاف يعود إلى نظرتنا، وإلى طريقة النظر، أو الزاوية التي منها ننظر إلى هذا الشيء أو ذاك. ما يعني، عند بروتاغوراس، أن الثابت والمطلق لا معنى لهما، أو هما، حتماً، يصبحان غير مفيدين، وغير جديرين بالاهتمام. وهذا ما يجعل من مفاهيم مثل العدالة والحق والخير، وحتى الجمال، مصدرها الإنسان، والإنسان، بالتالي، هو من يعطي كلّ مفهوم منهما فهمه له، وطريقة نظره إليه، أو الطريقة التي بها يحدد مفهومه لهذه المفاهيم جميعها، وغيرها من المفاهيم التي يمكن أن تطرأ في المجتمع، في علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون.
أكد بروتاغوراس، في هذا السياق، بشكل خاص، على مسألتي الاتفاق والمواضعة، في ما يرجع لهذه المفاهيم، وغيرها، بما في ذلك، ما ندخله نحن اليوم، ضمن ما نعتبره قيماً، أو ما يدخل في القيم. وهذا في اعتقادي، نوع من التفكير المتقدم، الذي نحتاجه في إعادة الأمور إلى طبيعتها، أي باعتبار الإنسان، وهو ينظر ويفكر ويتأمل، هو من يخلق القيم، ويخلق المفاهيم ويبتكرها، وهو من يؤسس هذه المفاهيم ويملأها بما تحتاجه من طاقةٍ، كما أنه هو أيضاً، من يعود لإفراغها من المعنى القديم، ليضعها في سياق التحولات التي تجري في زمنه وفي بيئته، وفي مجريات الأفكار الطارئة التي تحدث في هذا الزمن، أو في هذه البيئة. فلاشيء في مثل هذا الفكر المتصير، يبقى على حاله، أو يسكن في الماء نفسه، لأن البرك الآسنة تتعفن، وتسكنها الجراثيم والطفيليات، بعكس الماء المتحرك المتموج، الذي لا يهدأ، لأنه حي بما فيه من قلق، وكأن الريح تحته بتعبير المتنبي.
السفسطائيون، كانوا، هم أيضاً، أكثر جرأةً من سقراط وأفلاطون، ليس في قلب الحقائق والمعطيات، بل في التأكيد على مبدأ الصيرورة، وعلى الماء المتموج للأشياء، وما تحفل به من قلقٍ. فبقدر ما كان سقراط وأفلاطون يحرصان على بقاء الأشياء نفسها، خصوصاً في الفن، وما فيه من قواعد ومقاييس ثابتة، كان السفسطائيون، لا يعبأون بهذا التثبيت الديني والأخلاقي للأشياء، خصوصاً في رؤية أفلاطون المثالية، التي كانت تربط كل شيء بالمنفعة، وتعتبر اللذة، أو المتعة، وتذوق الأشياء الجميلة، زائلين، ولا طائل من ورائهما، وهما ليسا هدف الفن والجمال عموماً.
أليس أفلاطون من هاجم الشعراء، واعتبرهم مفسدين في «الجمهورية»، كما سيفعل القرآن بعده!؟ ثم أليس أفلاطون هو من أدان هومير، كما أدان هسيود أيضاً، وانتقدهما، أو انتقد ما اعتبره «مبادئ فاسدة»، في شعريهما، وأصرّ على ضرورة مراقبة الشعراء «فنوجب عليهم أن يطبعوا منظوماتهم بطابع الخلق الحميد إلا الذين آمنوا ، وإلا فلا ينظموا، أو نوسع نطاق مراقبتنا فتشمل أساتذة كل فن، فنحظر عليهم أن يطبعوا أعمالهم بطابع الوهن والسفالة والسماجة»!؟
في هذا النوع من الفكر، الذي أعطى فيه أفلاطون للفيلسوف دور العقل المنظم والموجه، وفق منظوره للفلسفة، طبعاً، لم ينتبه أن تثبيت الفكر، وتثبيت الفن والجمال، إنما هو قتل لهما، وخروج بهما عن السياق الإبداعي، الذي يقوم على الإضافة، وعلى الاختلاف والتنوع. فما ذهب إليه بروتاغوراس، كان تصعيداً ضد هذا الثتبيت، وضد تحويل الإنسان إلى آلةٍ، أو إلى فيلسوفٍ يقيم في مدينةٍ، الشعر فيها، هو الكلام نفسه الذي يستعيده الشاعر، بالقواعد نفسها، وبالمقاييس والعبارات نفسيهما، أو ب»الخلق الحميد» نفسه.
وأود هنا أن أعود إلى مقدمة ترجمة «محاورتي ثياتيتوس وفايدروس، أو عن العلم والجمال» الصادرة عن «دار التنوير» 2014، لما لها من أهمية في الإشارة إلى دور الفكر والجمال المتحولين، في بناء «الجمهورية»، لا بالمعنى الأفلاطوني، الديني، أو العقائدي الأخلاقي، ولكن بمعنى الجرأة في التغيير، وفي اختلاق المعاني والدلالات، خصوصاً في الفن والجمال.
يوريبدس، مثلاً، لم تعد عنده التراجيديا، تتأسس على المعتقدات والأسس الأخلاقية، فهو أكد في التراجيديا على انفعالات البشر، وعلى التأثيرات النفسية الواقعة عليهم، وما يحفل به الواقع من مشاكل ومحن. بمعنى أن يوريبدس، خرج من معنًى إلى آخر، ومن قاعدة أو قانون، إلى اختلاقٍ جديد مغايرٍ وغير متوقع. وهو ما فعله براسيوس، ولازوكسيس في التصوير، مثل الخدع البصرية، والتلاعب بالضوء والظلال، وهما من اكتشف قواعد المنظور. براكستيل في النحت، فعل الشيء نفسه، فهو اهتم بتفاصيل وجزئيات الجسم الإنساني، خصوصاً جسم المرأة. كما أن سكوباس، حرص في منحوتاته على إبراز العواطف والانفعالات التي تتبدى على وجه الإنسان. وفي سياق هذا الجو العام الذي لم يكن خاضعاً، لحسن الحظ لتأثير الفكر التثبيتي، مهما تكن عظمة صاحبه أو مكانته، ستتحرر الموسيقى أيضاً من طابعها القديم الذي ارتبط بالرقص الديني، كما أن ثيموثيوس الملطي، لم تعد تسعفه أوتار القيثارة التي سيزيد فيها، أي سيعمل، ليس على تغيير الوتر، بل على تغيير الصوت والنغم، ما عرضه لغضب مجلس الشيوخ، خصوصاً في ما يتعلق بإخراجه الأصوات التي صور بها الأصوات التي صدرت عن سيميلي وهي تضع الإله ديونيزوس.
هذه المعطيات التاريخية، هي في جوهرها أحداث ذات أهمية كبيرة، لأنها تتعلق بالفن، وبالجمال، كما أنها تمس الفكر، وتمس الإنسان، وتكشف الدور الكبير الذي يلعبه الإنسان في الخلق والابتكار. لا يعني هذا أن سقراط أبعد الإنسان من فكره، ولا أفلاطون، وحتى الدين نفسه، إذا ما تقدمنا إلى الأمام، بعض الشيء، لكن، حين يصبح الإنسان رهينةً في يد الغيب، أو أسير معتقداتٍ راسخة، ويتم إفراغه من العقل ومن الخيال، أو من الجمال، بالأحرى، فهذا معناه أن الإنسان هو صدًى، وهو آلة لتنفيذ أحكام، لا رأي ولا نظر له فيها، والوعي الجمالي، والتربية الجمالية، وإدارك الجمال في صيرورته، وفي ابتكاراته، هو ما يمكنه أن يعود بالإنسان إلى طبيعته القائمة على الإضافة، لا على التكرار والاجترار، وسيادة الإنسان على نفسه.
اليوم، أصبح من ضرورات المجتمعات المعاصرة، أن يكون الإنسان في قلبها، أو هو من يديرها، وليدير الإنسان هذه المجتمعات، ينبغي أن ينتبه إلى الطابع الذرائعي والاستهلاكي للفن، وأن تكون المدرسة والإعلام في قلب هذا النوع من الوعي الجمالي المبني على إرادة الإنسان، لا إرادة الآلة، أو الإله. فالصناعات المعاصرة، من مثل صناعات السيارات، بالأشكال الانسيابية المغرية والمثيرة، وشاشات التلفزيون، والهواتف المحمولة والألواح الإلكترونية، وغيرها من الصناعات، وملفوفات السلع والبضائع، تستفيد من الفنون بصورة كبيرة، ليس لإثارة الوعي بالفن، أو تقديراً لعمل الفنانين الكبار، بل لتسليع الفن، لأن مقتني السيارة أو اللوح الإلكتروني، لا يهتم بالخلفية الجمالية للمادة التي يستعملها، وبما تختزنه من طاقات تخييلية باهرة وعظيمة، بقدر ما يكتفي بالسطح وبالقشرة، وبالتالي فهو يكون خارج الوعي الجمالي الذي هو وحده ما يمكنه أن يجعل هذا الإنسان يستفيد من هذه الصناعات والتقنيات، ويستعملها في سياق هذا الوعي، وفي سياق أن الإنسان هو أصل كل شيء، لا أن نستبدل الغيب بالآلة، ونتحول من آلهة المثال، إلى آلهة المادة والاستهلاك.
كاتب مغربي