أيام من حزيران يوم المفقود العربي
معن بشور
كان يوم الأحد 6 حزيران 1982 اليوم الثالث من الحرب الرابعة بين الأمة والعدو الصهيوني، وبعد يومين من القصف الجوي «الإسرائيلي» على لبنان بدءاً من المدينة الرياضية الملاصقة لمحلة الطريق الجديدة في بيروت، وصولاً الى العديد من القوات الفلسطينية اللبنانية على امتداد الطريق من العاصمة الى الجنوب والبقاع الغربي، مروراً بالساحل الشوفي من جبل لبنان…
كان مئات الشبّان يحتشدون مساء يومذاك في مقرّ تجمّع اللجان والروابط الشعبية في المصيطبة، ويبدون استعدادهم للتوجه الى الجنوب لمقاومة القوات الصهيونية المتقدمة على أكثر من محور في ساحله وتلاله وهضابه، تحت ذريعة إبعاد صواريخ المقاومة الفلسطينية عن المستعمرات الصهيونية في شمال فلسطين وفي عملية أسمتها «تل أبيب» يومئذٍ «سلامة الجليل»، وتبيّن أنّ الهدف احتلال أجزاء كبيرة من لبنان بما فيها العاصمة بيروت.
لم يكن سهلاً إقناع الشباب بأنّ الوصول الى مواقع القتال ساعتئذ ليس بالأمر المتيسّر، لا سيما أنّ وسائل النقل العسكرية لم تكن متوافرة لدى تجمّع محدود الموارد والإمكانات، وأنّ الحكمة تقتضي الاستعداد للدفاع عن العاصمة التي كان واضحاً أنها الهدف القادم للغزو لتغيير المعادلة السياسية وإخراج قوات المقاومة الفلسطينية ومعها الجيش العربي السوري، من العاصمة أولاً ومن لبنان كلّه ثانياً.
مع ذلك أصرّت مجموعة من الشبّان، وما كان يزيد عددهم على العشرة، على التوجه جنوباً ليكونوا طليعة المقاومين للزحف الصهيوني المدجّج بأحدث أنواع الأسلحة، والمغطى بطيران حربي كثيف، وببوارج تقصف من البحر، وتبرّع أحدهم بسيارته المدنية، فيما وضع الآخر شاحنة بيك آب ينقل فيها الخضار الى العاصمة بتصرّف المقاومين الرواد.
كانت الساعة تشارف العاشرة ليلاً حين توجه الشبّان مصحوبين بحماسة من قرّر المواجهة، فيما كان حكام كثيرون يغطون في سبات عميق أو يتواطأون سرّاً مع عدو قرّر أن يريحهم من عبء المقاومة، بل من أعباء فلسطين كلّها.
بعد ساعتين من المغادرة، وفي منتصف الليل تماماً، وفيما اقتربت السيارة ومعها الشاحنة من مدينة صيدا، فوجئ المقاومون الأوائل بإنزال صهيوني كبير على جسر الأولي، وكانت الخطة «الإسرائيلية» تقوم على جملة عمليات إنزال تفصل المناطق اللبنانية بعضها عن بعضها الآخر.
اشتبك ركاب السيارة المدنية بأسلحتهم الخفيفة مع الحاجز «الإسرائيلي» الحديث، وتدخلت المروحيات، فأصيب أحدهم، محمد المعلم شقيق منسّق خميس الأسرى الأخ يحيى المعلم بجروح في يده، وشوهد وهو يُنقل مصاباً إلى مروحية «إسرائيلية»، فيما أسر رفيقاه هاشم ابراهيم وحمزة يزبك وظهرا في ما بعد في معتقل انصار ذائع الصيت، وتمكن قائد المجموعة الملازم آل شوكت سليم من الإفلات من قبضة العدو.
الشاحنة التي كانت تقلّ آخرين هم مالك الشاحنة محمد شهاب والشاب البيروتي بلال الصمدي والجنوبي المقيم في بيروت منذ ولادته ابراهيم نور الدين، والبعلبكي حيدر زغيب قريب الضابط اللبناني الشهيد في معركة المالكية النقيب محمد زغيب، والشاب السوري الذي جاء الى بيروت طلباً للعمل فواز الشاهر، انقطعت أخبارها تماماً، واختفى أثر ركابها المقاومين الأوائل حتى الساعة، رغم جميع المراجعات الممتدّة على مدى 32 عاماً مع الصليب الأحمر والأمم المتحدة والمنظمات الدولية والحكومة اللبنانية.
لم يكن الشبان الستة المفقودين الوحيدين على يد قوات الاحتلال الصهيوني، بل اختفى أيضاً في تلك الأيام مناضلون كثر ينتمي بعضهم الى منظمات وأحزاب، مثل المناضل محي الدين حشيشو أحد قادة الحزب الشيوعي في مدينة صيدا، ومناضلي جبهة التحرير الفلسطينية وفي مقدمهم القائد العسكري عضو المكتب السياسي سعيد اليوسف ورشيد آغا وعماد عبد الله، والقائد حسين دبوق عضو قيادة جبهة التحرير الفلسطينية الذي كان له دور أساسي في جبهة المقاومة الوطنية، وصولاً الى المناضل عدنان حلواني عضو قيادة منظمة العمل الشيوعي الذي اختطف من منزله في رأس النبع بعد دخول قوات الاحتلال الى العاصمة مع العشرات آخرين من أبناء العاصمة الذين تناوب على خطفهم جنود الاحتلال والميليشيات المتعاملة معه.
بقي مصير الشبّان المقاومين الرواد الستة من أعضاء تجمّع اللجان والروابط الشعبية ومصير المناضلين الآخرين مجهولاً حتى الساعة، وبقينا نحيي ذكرى اختفائهم عاماً فآخر، علً خبراً ما يصلنا عن مصيرهم أو مصير بعضهم على الأقل، وأردنا يومذاك ان نعتبر السادس من حزيران يوماً للمفقود العربي على يد الاحتلال، خاصة أنّ المفقودين في حروبنا الداخلية، الصهيونية المنشأ والأهداف، باتوا بالألوف، حتى تساءل البعض عن أيّ مفقودين تتحدثون، وكان جوابنا دائماً أنّ الدفاع عن أي مفقود هو دفاع عن سائر المفقودين، والدفاع عن المفقودين لدى العدو الصهيوني هو دفاع عن مفقودي الحروب كلّها التي لم ولن تخدم إلاّ المخطط الصهيوني بتمزيق مجتمعاتنا والانتقام من شعوبنا.
لم تكن تلك الليلة الحزيرانية الطويلة مليئة بالألم والحزن على فقدان رفاق أبطال أعزاء جسّدوا باندفاعهم وبسالتهم وحدة الوطن والأمة فحسب، بل كانت أيضاً ليلة تختزن في معانيها مسيرة طويلة للمقاومة انتهت بهزيمة نكراء للعدو، اضطر إلى أن يصرخ جنوده بمكبرات الصوت ذات صباح من أيام أيلول 1982: «يا أهل بيروت، لا تطلقوا النار علينا نحن سنغادر عاصمتكم».
كان صمود بيروت في وجه حصار امتدّ ثمانين يوماً أسطورياً، وبعد معركة مجيدة في خلدة شارك فيها لبنانيون وفلسطينيّون وسوريّون ومتطوّعون عرب وقادها العقيد الفلسطيني البطل الشهيد عبد الله صيام ابن مدرسة عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني. وانتقم في تلك المعركة للمفقودين الستة رفاق لهم في تجمّع اللجان والروابط الشعبية في أول عملية تصدّ للقوات الصهيونية المتقدمة لاحتلال العاصمة، وقرب المدينة الرياضية ذاتها التي بدأت الحرب بالقصف عليها، وسقط يومذاك شهيدان من رابطة أبناء الطريق الجديدة قوات فخر الدين محمد الصيداني وعصام اليسير، الشهيدين الأوّلين للمقاومة الوطنية لحظة انطلاقها تحت شعار خالد أطلقه تجمع اللجان والروابط الشعبية «ليس من العار أن تدخل مدرّعات العدو عاصمتنا، لكن العار كلّ العار أن لا تجد من يطلق النار عليها». وفعلاً انفتحت نار جهتم على العدو في سائر أحياء بيروت، وعلى يد شبّانها المنتمين الى مختلف التيارات والأحزاب والقوى العروبية والناصرية والبعثية والإسلامية والشيوعية والقومية الاجتماعية.
لم تتوقف المقاومة ضدّ العدو منذ تلك الأيام، ولم تتوقف المؤامرات الهادفة الى إسقاطها وإسقاط سلاحها، وبدا أنّ روح المقاومة التي ألهبت المقاومين الستة المفقودين وغيرهم من المقاومين الأبطال ما زالت مشتعلة مثل راية يحملها جيل إثر جيل…
إنه يوم من أيام حزيران الذي أراده العدو شهراً لهزيمة الأمة، فكان شهراً لانتفاضاتها مذ ان خرجت الأمة يومي 9 و 10 حزيران 1967. وبعد أيام على الهزيمة، ترفض تنحي القائد جمال عبد الناصر، وتكافح لتترجم مقولته الخالدة «ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة».
في الحرب «الاسرائيلية» الرابعة حزيران أيلول 1982 سقط للعدو ألوف القتلى وعشرات ألوف الجرحى، بينهم بعض أكبر ضباطه، وأدرك قادة هذا العدو زيف شعار أطلقوه يوماً: «إن احتلال لبنان لا يحتاج الى أكثر من نزهة تقوم بها كتيبة من المجندات على دراجات هوائية…».
فهل نستعيد روح تلك الأيام المجيدة… ونتمسك بمقاومتنا نهجاً وخياراً وثقافة وسلاحاًً.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية