العراق ينتفض: العبادي يستدرك
بشارة مرهج
المشكلة الملتهبة التي يعيشها العراق اليوم ليست عارضة كي يستطيع رئيس الوزراء حيدر العبادي أن يحلها بلمسة سحرية، أو بفرض مجموعة من التدابير الموقتة، بعضها ملتبس، وبعضها الآخر سطحي كإقالة أصحابه من شاغلي بعض المناصب العليا من دون مساءلتهم أو محاسبتهم.
فالأزمة الطاغية اليوم هي في الأساس أزمة بنيوية على الصعيد الدستوري كما السياسي كما الاقتصادي، وما لم تتمّ المعالجة في الجذور فسيبقى الحلّ منقوصاً ومبتسراً بصرف النظر عن مقاصد رئيس الحكومة الذي لم يتحرك إلا بعد أن ملأت الجماهير الشوارع من بغداد إلى البصرة مروراً بالحلة والديوانية والنجف وكربلاء.
فالارتباك الدستوري، والفوضى الإدارية، والتردّي الأمني والانهيار الاقتصادي كلها ظواهر لم تأت من فراغ، وإنما سببها واضح ويعود إلى عملية تقسيم العراق من الناحية الدستورية، حيث تمّ اعتماد الصيغة الطائفية قاعدة للحكم، مع ما رافق ذلك من سقوط للقيم الوطنية والقومية الجامعة، واستفحال عمليات النهب للخزينة العراقية، وسرقة النفط، واعتماد تعيينات وهمية، وزيادة رواتب الأطر العليا، وتقليص النشاط الصناعي والزراعي… مما أدّى إلى تفشي الأزمات الاجتماعية، وتهميش الطبقات محدودة الدخل، واستعلاء القلة المتنفذة، وانهيار البنى التحتية، وتأجيل المشاريع الحيوية، وتوزيع المغانم على الأنصار والمحاسيب، ومصادرة أملاك الغير في أكبر عملية فساد سجلتها دوائر الأمم المتحدة في العصر الحديث.
وعندما صاغ بول بريمر بالتعاون مع مراكز البحث الصهيوني والأميركي معادلته السامة لتقسيم العراق على أساس طائفي وإغراق البلاد في لجة التمييز والفساد، كان من الطبيعي أن يتحطم سلّم القيم الإنسانية والأخلاقية في العراق، فتنفلت الغرائز والعصبيات ويسطو أهل النفوذ والكلمات المعسولة على ثروات البلاد ومداخيلها المباشرة، فتتضخم ثرواتهم في شكل أسطوري وتظهر ملامحها في لندن وقبرص وبيروت، وتنسحق الجماهير الشعبية وتجد نفسها محرومة حتى من الرواتب الضئيلة والخدمات الصحية والتربوية والإسكانية المتردّية، متروكة على قارعة الطريق محبطة ومحطمة لا أحد يسأل عنها أو عن أولادها، حتى إذا أطلّ فصل الحرّ وتحوّلت المنازل إلى أفران مستعرة بغياب المياه والتيار الكهربائي، شعر الأهالي بالاختناق والسخط فخرجوا عفوياً إلى الشوارع يهتفون ضدّ الفساد والإهمال، ولكن هذه المرة خارج التعليمات والتوجيهات والشعارات المعدّة سلفاً.
ومقابل زخم التظاهرة واتساعها برز هزال السلطة المنقسمة على نفسها الخجلى من ممارساتها فما كان من المسؤولين سوى الاعتراف بشرعية المطالب وشرعية التحرك في محاولة منهم لاستيعاب الانتفاضة، ومن ثم تحويلها إلى قاعة الانتظار.
على هذا الأساس تحرك العبادي بدهاء وسرعة، ولكن تحركه وانْ بلسم الجراح لبرهة إلا انه لن يؤتي ثماره ما لم يأخذ أبعاده كاملة على طريق معالجة المشاكل من جذورها دونما خوف أو تردّد، خصوصاً أنّ الذين يقفون في وجه الحلّ هم الذين يتحكّمون بمفاصل السلطة ولم يسقطوا فجأة بالمظلات على بغداد.
فإذا كان حيدر العبادي مصمّماً على سحق المعادلة الطائفية وكسر معادلة الصهيوني بريمر، واستعادة الوحدة الوطنية العراقية، وحفظ حقوق وكرامات جميع مكونات الشعب العراقي، فسيكون قد وضع نفسه على الطريق الصحيح لا لحلّ الأزمة الملتهبة اليوم فحسب، وإنما أيضاً لحلّ الأزمة الكبرى التي يعاني منها العراق والتي من خلالها تسرّب تنظيم «الدولة الإسلامية ـ داعش» ليحوّل العراق إلى منطقة مضطربة تستقبل فاجعة لتودّع كارثة.
وإذا كان حيدر العبادي مصمّماً على انتشال العراق من الأزمة الاقتصادية المتمادية حيث السطوة للفساد والرواتب الضخمة أو الوهمية لا فرق، وحيث السيادة للوائح المزيفة والصفقات الورقية، فليس أمامه سوى الاستعانة بالقضاء النزيه لتقويض مملكة اللصوص الجدد الذين جعلوا لص بغداد القديم ينكفئ في جحره خجلاً مما يجري في الأروقة الرسمية وحواليها.
إنّ الجماهير العربية التي تعوّل على بغداد ودورها التاريخي في مقاومة الصهيونية والاستعمار وكلّ أشكال الغلوّ والعنف والإرهاب، ترى بارقة أمل كبرى في تحرك الجماهير العراقية والشعارات السلمية التي ترفعها في وجه الفساد والانقسام.
والجماهير العربية التي تؤيد وتساند هذه المطالب ترى فيها خريطة طريق لإصلاح الوضع في العراق وانتقاله إلى العمل الايجابي الوحدوي التصالحي في منطقة عربية حيوية يريدون لها أن تدفن نفسها بنفسها في متاهات الفوضى والفقر والانهيار.
وزير سابق