مهدي منصور: كلّ من ينظم شعراً ولم يَزُرْ دمشق تموت قصائده ميتةً جاهليّةً
رانيا مشوِّح
على رغم نزيف جراحها وعمق أنّاتها، ما زالت دمشق قادرة على عناق الفنّ والأدب والحياة. إذ كرّمت مساء أول من أمس، عضو الهيئة الإدارية في اتحاد الكتّاب اللبنانيين الشاعر مهدي منصور، وذلك في مقهى «القصيدة الدمشقية» وسط العاصمة. فصدح منصور بأشعار لامس فيها حنايا الوطن الذي أحبّه واستنجد به وأغاثه، ثم خان الحبيبة معه.
وحضر حفل التكريم جمعٌ لافتٌ من الشعراء والكتّاب والأصدقاء والإعلاميين.
«البناء» التقت الشاعر الشاب المفعم بالحياة والعطاء، وكان هذا الحوار عن حياته وشعره وعن تكريمه أيضاً.
يقول منصور: بزيارتي هذه لدمشق، والتي اعتبرها الزيارة الحقيقية الأولى، فإني أردّ الجميل إليها. إذ هي زارتني كثيراً سابقاً من خلال أصدقاء وقصائد وعلاقات. لذلك، أشعر أنني أعرفها جيداً، وإن كنت لا أزال أتعلّم جغرافيتها، لكنّني أحفظ تاريخها في القلب.
وأضاف: أهمية هذا التكريم أنه يدلّ على الحبّ الحقيقي الذي يولد بسرعة. فغالباً، تأخذ الأنشطة وقتاً للتحضير والأفكار. والتكريم كذلك، بحاجة للمرور بإجراءات. إلا أن هذا التكريم كان مختلفاً. فقد أتيت لحضور حفل الفنّانة المبدعة فايا يونان في دار الأوبرا، إذ أطلقت أغنيةً من كلماتي. فاقترح بعض الأصدقاء السوريين فكرة هذا الاجتماع ربما للتعارف وتلاوة الأشعار، ثم أخذ هذا اللقاء شكلاً آخر كأمسية… فتكريم.
مهدي منصور شاعر، لبناني له محطات مضيئة في مسيرته، إذ نال ذهبية «المميزون» عام 2003، كما فاز بجائزة اللجنة في مسابقة أمير الشعراء عام 2008. ونال جائزة دبي الثقافية عام 2013. وعلى رغم تعدّد إنجازاته في هذا الصعيد، إلا أنه اعتبر أن وجوده في دمشق حالياً المحطة الأقدس في مسيرته الأدبية. وعن هذا يقول: أحدهم أخبرني أن هذه الأمسية قد تؤخَذ عليك على أنها موقف سياسيّ. إلا أنني أرغب بالقول من خلال صحيفتكم، إنها موقف إنساني وتاريخيّ. فلا أحد يستطيع أن يقول لشاعر إن زار مدينة مثل دمشق بكل ما تمثله جدرانها المكتوب عليها شعر العالم من البحتري إلى نزار قباني وربما من قبل وما بعد أيضاً. وهذا التاريخ الديني المحفور في عمق جدرانها من القديسين وتلاميذ السيد المسيح والإسلاميين والأمويين والعباسيين، لا يستطيع أحد أن يحدّث شاعراً قادماً من العربية والقصيدة والمُعلّقة أن يُحسَبَ وجوده تسجيلَ موقفٍ سياسيّ. أنا أرى هذا الطرح سخيفاً، ومن يتكلم به هم خارج أسوار دمشق، ولا يعرفون أن هذه المدينة تحبّ حتى مبغضيها. وجئت لأسجل تضامني مع الناس الصامدين، ومع الحياة على رغم كلّ ما يحصل، وعلى رغم صوت الموت البعيد الذي نراه ونسمعه ليلاً ونهاراً. إلا أنّ كل شخص هنا، رأيت فيه قاسيون. والحياة الدفّاقة في الشوارع والأزقّة الدمشقية لا تنتهي. وكلّ يدّعي نظم الشعر ولم يَزُرْ دمشق، يموت وتموت معه قصائده ميتة جاهلية.
وفي رسالة منه لمن يعتبر وجوده في دمشق موقفاً سياسيا يقول منصور: أنا أشبه هذه المدينة، وأشبه من يحيا فيها، وأنا لا أملك موقفاً مخالفاً لفرح الحياة الذي رأيته في دمشق. وعندما أنادي بالحرّية فأنا لا أعني بها الحرّيات المستوردة من الخارج. إنما حرّيتي هي كما أحيا الآن، وحتى لو حُسِب هذا الموقف كموقف سياسيّ، إلا أنني لا أملك ما أخسره. وأنا من الناس، وعندما أعُبّر عنهم من خلال قصائدي يصبحون منّي. وقد سُجّل عليّ وجودي هنا ضمن حسابات ضيّقة بعيدة عن مساحات الشعر، إلا أنني أرفض هذا الكلام، إذ ما أعطي لأحد حرمان شاعر من التحدّث إلى الناس، ولا يحق لأحد أن يؤطّر شاعراً ويضعه في بوتقة معينة. إذا كانت هذه الحرّية هي المنشودة، فنحن أمام مشكلة كبيرة حقاً.
وللحضور دورهم في التعبير عن التكريم وضرورته في دمشق على رغم ما تعانيه من حرب ضدّ الإنسانية عموماً. ومنهم الشاعر السوري حسن الراعي الذي قال: مهدي منصور شاعر يمتاز بالفكر النيّر. وقصائده معبّرة جدّاً. وهذا التكريم يستحقه بجدارة. وعندما أرى شعراء كمنصور، تتكون لديّ قناعة خاصة أن مستقبل الشعر ما زال بخير، لا بل أفضل مما سبق. فالشعر يرتقي دائماً إلى المراحل الأسمى، ولا يمكن له أن يسقط. وهذا يتحقق بجهود عدد من الشعراء ومنهم الشاعر مهدي منصور.
وأضاف: دمشق هي الأمّ لكل مواطن عربي، لا السوري فقط. لذلك، هي قادرة على التكريم في أيّ وقت وأيّ ظرف. وهذا دليل على صمودها وتحدّيها، وعلى أن الحياة ما زالت تُبعث من أرضها ولن تملّ.
وفي الإطار نفسه، يقول الشاعر السوري الدكتور محمد سعيد العتيق: لا نستطيع أن نعتبر مهدي منصور شاعراً شاباً. فهو شاعر مخضرم واسمه لامعٌ على مستوى العالم العربي. هو مستقبل الشعر والكلمة العربية. إنّني أرى فيه الأصالة والتمسك بجذور اللغة العربية والأوزان والبحور وكلّ القيم الشعرية الجميلة التي بدأ بعض الشباب بالتفلت منها. هو يتمثل بالماضي والحاضر، فمن خلال القصيدة العمودية يكتب الشعر الحديث مع المحافظة على الأصل والتعبير عن الحداثة بالكلمة والرؤية وبحدس الشاعر. لذلك، أنا أعتزّ بوجود شاعر كمهدي منصور في عالمنا العربي. وأضاف: دمشق لا تموت، هي حية ما بقيت الحياة. فكم مرّ عليها من مِحن ومؤامرات واستعمار، إلّا أنّها ظلّت باقية ببواباتها السبع الجميلة، والحياة فيها مستمرة على رغم كلّ ضيم، لأنها منتصرة، والنصر قريب لسورية. وأرى أن الحالة الثقافية تعبير عن نبض الشارع والحياة، ويدلّ وجود فعاليات ومنتديات دائمة كهذه في دمشق، على أن الروح المعنوية لدى المواطن السوري ما زالت مرتفعة. وكما أن الجندي المقاتل على الثغور يحمي الوطن، الكلمة أيضاً لا تقلّ أهميةً عن الرصاصة، وهي تدافع عن الوطن وربما أكثر من الرصاصة.
وعن رأيه تكريم شاعر شاب في مقتبل العمر، وما يمثّله ذلك للشعراء الشباب خصوصاً، قال الشاعر جعفر مشهدية: ملتقى «يا مال الشام» اليوم، وبإدارة الأستاذ أحمد كنعان، يتّبع النهج نفسه الذي اتّبعه سابقاً في رسم وجه دمشق الحقيقي، أي الوجه الأدبي والثقافي والفنّي. وهذه الصورة لا تكتمل من دون وجود الشاعر مهدي منصور الذي يعبّر عن حالة أدبية راقية جداً. وهذه رسالة لإعادة التوأمة بين دمشق وبيروت بوجود شاعر لبناني كبير في مدينة دمشق، يؤكد أننا على قيد الحياة والعشق والشعر.
وأضاف: سابقاً، كانت تنتابنا خيبة أمل كشعراء شباب، إلا أننا اليوم ـ بافتتاح بعض الملتقيات ـ نشعر بعودة الدورة الشعرية إلى الحياة. واستطعنا من خلال لقاء ذوي الخبرات، التعلم منهم، ما يتمخّض عن تمازج بين الأجيال، يعيد الأمل إلى الحياة الثقافية. فسابقاً لم يكن هناك اهتمام بالشعر ولا بالحالة الثقافية، لا مجتمعياً ولا حكومياً للأسف. فكان لا بدّ أن يعيد رجال الحركة الثقافية بناءها من جديد، من دون انتظار الدعم من أحد، فكانت هذه الملتقيات. كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي كان لها دورها الكبير على كافة الأصعدة، خصوصاً الثقافية، من خلال تسليط الضوء على كلّ شيء، سواء كان سلبياً أم إيجابياً. لذلك، كانت الاستفادة ثقافياً منها أفضل بكثير، إذ استطعنا التواصل مع أشخاص مثقّفين لإعادة بلورة أسس الثقافة الشعرية العربية.
ما الشام إلا قلب عاشقها، قالها مهدي منصور، وجاء العاشق إلى معشوقته مُكرّماً، فزادها إيماناً بالفرح والحبّ، وشدّ على يديها الصامدتين وقال: وإني أُحبك كي ندوس على المدافع. فطغى صدى عشقه على أبواق الموت الآتي من البغض والجهل.