انسوا «سايكس ـ بيكو»… معاهدة «سيڤر» هي التي تشرح الشرق الأوسط الحديث

بين أيدينا اليوم، تقرير هام كتبه نيك دانفورث لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، وترجمه سعيد السالمي.

قبل خمس وتسعين سنة من اليوم، اجتمع دبلوماسيون أوروبيون في مصنع للخزف في الضاحية الباريسية «سيڤر»، ووقّعوا على معاهدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. انهارت الخطة بسرعة، حتى أننا بالكاد نذكرها اليوم، إلا أن معاهدة «سيڤر» قصيرة الأمد، التي ليست أقل أهمية من اتفاقية «سايكس ـ بيكو» التي لا ينتهي النقاش حولها، ولا نزال نشهد آثارها إلى اليوم.

ولعلّ أفضل ما يمكن أن نقوم به في ذكرى هذه المعاهدة المنسيّة، أن نستحضر شيئاً من هذه الآثار عام 1915، بينما كانت القوات البريطانية تستعدّ لغزو اسطنبول عبر شبه جزيرة جاليبولي. كانت الحكومة في لندن تطبع مناديل حريرية مبشّرة بانهيار الامبراطورية العثمانية. مظاهر الاحتفال تلك كانت سابقة لأوانها بعض الشيء إذ أصبحت معركة جاليبولي واحدة من الانتصارات القليلة للعثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى . ولكن بحلول عام 1920، أصبح لثقة بريطانيا ما يبرّرها: مع احتلال قوات التحالف العاصمة العثمانية، وقّع ممثلون عن القوى المنتصرة في الحرب معاهدة مع الحكومة العثمانية المهزومة قسّمت أراضي الامبراطورية إلى مناطق نفوذ أوروبية. بموجب معاهدة «سيڤر» تم تدويل اسطنبول ومضيق البوسفور، وأُعطيت أجزاء من أراضي الأناضول لليونان والأكراد والأرمن والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. وإذا رأينا كيف ولماذا فشلت الخطة الأوروبية الأولى لتقسيم الشرق الأوسط، نستطيع أن نفهم أكثر الحدود في المنطقة اليوم، فضلاً عن التناقضات التي تطبع القومية الكردية المعاصرة والتحدّيات السياسية التي تواجه تركيا الحديثة.

بعد أقل من سنة على توقيع معاهدة «سيڤر»، بدأت القوى الأوروبية تشكّ بأنها كانت طموحة أكثر من اللازم. فقد قام ضباط عثمانيون عقدوا العزم على مقاومة الاحتلال الأجنبي، على غرار مصطفى كمال أتاتورك، بتنظيم بقايا الجيش العثماني، وبعد عدة سنوات من القتال طردوا الجيوش الأجنبية التي كانت تسعى إلى فرض شروط المعاهدة. وكانت النتيجة هي تركيا كما نعرفها اليوم، والتي تشكّلت حدودها الجديدة بشكل رسمي في معاهدة «لوزان» عام 1923.

لقد ظلّت معاهدة «سيڤر» منسيّة إلى حدّ كبير في الغرب، لكنها تركت إرثاً قوياً في تركيا. إذ ساهمت في تأجيج شكل من أشكال البارانويا القومية وصفه بعض الباحثين بـ«متلازمة سيڤر». ومن المؤكد أن لمعاهدة «سيڤر» دوراً مهماً في حساسية تركيا تجاه الانفصال الكردي، وكذلك الاعتقاد السائد بأن الإبادة الأرمينية ـ التي وُظّفت على نطاق واسع من طرف الدبلوماسيين الأوروبيين لتبرير خططهم في الأناضول عام 1920 ـ مؤامرة معادية لتركيا أكثر مما هي مجرّد مسألة حقيقة تاريخية ليس إلّا. وعلاوة على ذلك، فإن نضال تركيا التأسيسي ضد الاحتلال الاستعماري ترك بصماته في شكل مقاومة مستميتة للإمبريالية، كانت موجهة في بداية الأمر ضدّ بريطانيا، وخلال الحرب الباردة ضد روسيا، والآن، في في غالبية الأحيان، ضدّ الولايات المتحدة الأميركية. إلا أن إرث «سيڤر» امتد إلى ما وراء تركيا، ولهذا السبب بالضبط يتعين علينا أن نضمن هذه المعاهدة إلى جانب «سايكس ـ بيكو» في تاريخنا عن الشرق الأوسط. وستساعدنا في إعادة النظر في الفكرة السائدة بأن مشاكل المنطقة كلها بدأت عندما رسم الأوروبيون الحدود على خريطة فارغة.

مما لا شك فيه أن الأوروبيين كانوا سعداء بخلق الحدود التي تتفق مع مصالحهم الخاصة طالما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. لكنّ فشل «سيڤر» أثبت أنهم في بعض الأحيان لم يستطيعوا. عندما حاولت الدول الأوروبية إعادة رسم خريطة الأناضول، باءت جهودها بفشل ذريع. وبالمقابل، نجح الأوروبيون في الشرق الأوسط في فرض الحدود، لأنهم كانوا يملكون القوة العسكرية لهزم الشعوب التي قاومتهم. ولو نجح المقاوم الوطني السوري يوسف العظمة، وهو ضابط آخر ذو شارب في الجيش العثماني، في تكرار النجاح العسكري لأتاتورك، وهزم الفرنسيين في معركة «ميسلون»، لكان المشروع الأوروبي في بلاد الشام سيلقى مصير معاهدة «سيڤر» نفسه.

هل كانت حدود مغايرة ستجعل الشرق الأوسط أكثر استقراراً، أو ربما أقل عرضة للعنف الطائفي؟ ليس بالضرورة. إلا أننا إذا نظرنا إلى التاريخ من خلال عدسة معاهدة «سيڤر» ستظهر نقطة أعمق حول العلاقة السببية بين الحدود التي رسمها الأوروبيون، وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط: المناطق المتاخمة للحدود التي فرضتها أوروبا تميل إلى أن تكون ضعيفة جدّاً، أو غير منظّمة لمقاومة الاحتلال الاستعماري بنجاح. ولم تصبح تركيا أكثر ثراء وأكثر ديمقراطية من سورية أو العراق لأن الحظّ ساعدها في الحصول على الحدود جيدة، لا بل إن العوامل التي مكّنت تركيا من تحدّي الخطط الأوروبية ورسم حدودها بنفسها ـ بما في ذلك الجيش، والبنية التحتية الاقتصادية التي ورثتها عن الامبراطورية العثمانية ـ هي، إلى حدّ ما، العوامل نفسها التي مكّنت تركيا من بناء دولة وطنية مركزية قوية على النمط الأوروبي.

بطبيعة الحال، هناك قوميون أكراد كثيرون قد يزعمون أن الحدود الحالية لتركيا غير صحيحة. وفي الواقع، ثمة من يعتبر أن الاكراد معدومي الجنيسة خطأ فادح في حدود المنطقة بعد الإمبراطورية العثمانية. ولكن، عندما حاول الامبرياليون الأوروبيون في «سيڤر» إنشاء دولة كردية، قاتل عدد من الأكراد إلى جانب أتاتورك لإسقاط المعاهدة. إن هذا لتذكير بأن الولاءات السياسية تستطيع أن تتجاوز الهويات الوطنية بطرق سيكون من الأفضل لو استطعنا أن ندركها اليوم.

إن الدولة الكردية المرتقبة في معاهدة «سيڤر» كانت ستكون، بشكل حاسم، تحت السيطرة البريطانية. وإذا كان هذا يصبّ في مصلحة بعض القوميين الأكراد، فقد وجد آخرون في هذا الشكل من «الاستقلال»، تحت السيطرة البريطانية، إشكالية حقيقية، لذلك انضموا للقتال مع الحركة الوطنية التركية. لا سيما الأكراد المتديّنون، إذ يعتبرون أن استمرار الحكم التركي العثماني أفضل من الاستعمار «المسيحي». أما الأكراد الآخرون، فإنهم، لأسباب أكثر عملية، يخشون أن يقدم البريطانيون، عندما سيتولون زمام الأمور، على دعم الأرمن الذين يسعون للعودة إلى المنطقة. بعضهم ندموا، في ما بعد، على قرارهم هذا عندما أصبح واضحاً أن الدولة التي حاربوا من أجل تأسيسها صارت أكثر تركية وأقل دينية ممّا كان متوقعاً. لكن الآخرين، تحت ضغط إكراهات مختلفة، اختاروا أن يقبلوا الهوية التي منحتها لهم الدولة الجديدة.

لا يزال قوميون أتراك كثيرون متأثرين بالطريقة التي تمّ بها تدمير دولتهم بسبب معاهدة «سيڤر»، في حين لا يزال عدد من القوميين الأكراد يتخيّلون أن تتحقق دولتهم التي كانت مرتقبة. وفي الوقت نفسه، تعمل الحكومة التركية الحالية على تمجيد فضائل التسامح العثماني والتعدد الثقافي، في حين يقول الزعيم الانفصالي الكردي عبد الله أوجلان، الذي على ما يبدو قرأ لعالم الاجتماع «بينيدكت أندرسون» في السجن، إنه اكتشف أن الدول ليست سوى بنيات الاجتماعية.

لقد قضى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، وحزب «الشعوب الديمقراطي» المؤيد للأكراد، جزءاً كبيراً من العقد الماضي في التنافس على إقناع الناخبين الأكراد أن التصويت لمصلحة حزبهم تصويت من أجل السلام، والتنافس على أي الأحزاب يستطيع حل الصراعات المتأججة في تركيا منذ فترة طويلة، من خلال ترسيخ دولة أكثر استقراراً وأكثر شمولية.

باختصار، في وقتٍ ما زال يتناقش أميركيون كثر عن الطبيعة «المصطنعة» لدول الشرق الأوسط أوروبية الصنع، فإنّ تركيا تتجاوز بشكل متقطّع هاجساً استمرّ لمدة قرن من الزمن، مع إثبات مدى «واقعيته».

غنيّ عن القول إن تجدّد أعمال العنف التي شهدتها تركيا خلال الأسابيع القليلة الماضية يهدّد هذه العناصر الهشة المشكّلة للإجماع الوطني. ومع دعوة حزب «العدالة والتنمية» إلى اعتقال الزعماء السياسيين الأكراد، والمقاتلين الأكراد الذين يطلقون النار على ضباط الشرطة، فإن القوميين من كلا الجانبين يعودون إلى مواقفهم المتعنّتة المعتادة. لقدت حصدت تركيا، بعد 95 سنة، الفوائد السياسية والاقتصادية لانتصارها على معاهدة «سيڤر»، إلا أن بناء هذا النجاح يتطلب الآن تشكيل نموذج سياسي أكثر مرونة، يستطيع أن يجعل المعارك على الحدود، والهوية الوطنية، أموراً غير ذات موضوع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى