حيدر حاج اسماعيل/ ناسخ ومنسوخ… والمعيار روحية التسامح القرآنية

تقوم «البناء» بنشر كتاب الدكتور حيدر حاج اسماعيل «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ـ الآيات التي استبدلت بآيات أخرى بإرادة الله» والكتاب يحاول إلقاء الضوء على عدد من الآيات القرآنية التي جرى نسخها بما لا يتلاءم مع روحية القرآن الكريم المتسامحة خصوصاً ما جاء في سورتي «السيف» و«القتال».

و»البناء» إذ تنشر هذا الكتاب لقناعتها بضرورة توكيد حقيقة القرآن الكريم المتسامحة والمتناقضة مع الآيات المذكورة التي نسخت العديد من آيات الكتاب الكريم، لا سيما أن التكفيريين يقومون بتوظيف هذه الآيات المشوّهة لتوظيفها في تبرير إرهابهم ووحشيّتهم.

النسخ: تعريفه، وأنواعه المنظور الإيماني

يذكر العتائقي المولود عام 699 هـ في الحلة العراق في مطلع كتابه: علم الناسخ والمنسوخ، وكان في سبيل إبراز أهمية هذا العلم في القرآن، ما يأتي: «فإن ذلك أول ما يجب أن يُبدأ به من علوم القرآن». ثم ومباشرة، يقص الرواية الداعمة لوجهة النظر هذه، قول: «فقد رُويَ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه دخل مسجد الكوفة، فرأى ابن دأب صاحب أبي موسى الأشعري، وقد تحلّق الناس عليه يسألونه، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت، وأخذ أذنه ففتلها وقال: لا تقضِ في مسجدنا بعد». 1

إذن البداية الصحيحة لدراسة الدين الإسلامي تكون بدراسة ناسخه ومنسوخه. فما هو الذي نسخ وما هو الذي صار منسوخاً في القرآن؟ وقبل كل شيء، ما معنى الناسخ وما معنى المنسوخ؟

في كتاب حمل عنواناً مماثلاً، هو: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للبغدادي نُلفي المؤلف معرّفاً النسخ بما يأتي، يقول: «إن النسخ في اللغة يفيد الإزالة، أو الرفع، أو التبديل، مثل نسخت الشمس الظل». وهذا هو المعنى الذي يدخل ضمن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم. 2

بعد ذلك يصنّف العتائقي سور القرآن، التي تتألف من ستة آلاف آية، إلى أربعة أصناف أو مجموعات، هي:

– سور لم يدخلها ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة من أصل 114 هي سورة مجموع سور القرآن. 3

– وأما السور التي فيها ناسخ وليس فيها منسوخ فهي ست سور. 4

– والسور التي اشتملت على منسوخ ولم يدخلها ناسخ فعددها اثنتان وأربعون. 5

– وأخيراً، هناك السور التي دخلها الناسخ والمنسوخ وعددها ثلاث وعشرون. 6

وللنسخ نصّان: مكي ومدني. أما المكي فهو: «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مغتر بل أكثرهم لا يعلمون». 7

وأما المدني فقوله تعالى: «ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير». 8

ومعنى ذلك أن الله «تعالى» هو الذي قضى بالنسخ وأمر بتبديل عدد من الآيات، فهو على كل شيء قدير.

ذلك لجهة النصوص القاضية بالنسخ.

أما، لجهة الأدوات الناسخة، فقد حددها الله بآيتين، وكلتاهما من سورة التوبة المدنية، وهما: آية السيف وآية القتال. ونص آية السيف قوله تعالى: «إذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم». وآية القتال في قوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر». 9 وتجدر الإشارة إلى أن آية السيف نسخت 114 موضعاً في 52 سورة بينما نسخت آية القتال ثمانية مواضع في سبع سور. 10

نلخّص ما مر معنا حتى الآن بالقول، إن المصحف يحتوي على مجموعتين من الآيات: مجموعة الآيات المنسوخة ومجموعة الآيات غير المنسوخة، أي التي بقيت دون تبديل أو إزالة. مهمتنا الآن هي النظر إلى طبيعة كل مجموعة. نعني الصفة المشتركة لآيات كل منهما. أو نقول، إن مهمتنا هي الإجابة على السؤال: ما الذي يمكن أن تكون المميزة لآيات كل مجموعة بحسب معيار الموقف من الآخر؟

لنبدأ، بعرض نماذج من الآيات المنسوخة، بخاصة تلك التي مضمونها يتعلق بالعلاقة بالآخر. ففي سورة البقرة، نجد أن الآيات الآتية قد نسختها آية السيف: «قولوا للناس حسناً» آية 83 . «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم» آية 139 . «لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» آية 190 . و «لا إكراه في الدين» آية 256 . أما الآية: «فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره» من السورة نفسها، فقد آية 109 نسختها آية القتال. 11

ومن سورة آل عمران نسخت آية السيف الآية 20، وهي: «وإن تولوا فإنما عليك البلاغ». ونسخت آية القتال الآية 120، وهي: «وإن تصبروا وتتقوا». 12

ونسخت آية السيف الآية 63 من سورة النساء، وهي: «فأعرض عنهم وعظهم». 13

ومن سورة المائدة نقرأ: «وما على الرسول إلا البلاغ» آية 99 ونسختها آية السيف. 14

ونسخت آية السيف أيضاً الآية 99 والآية 108 من سورة يونس. الأولى تنص: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». والثانية تقول: «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه». 15

ومن سورة هود نسخت آية السيف حكم الآية 12، وهي: «إنما أنت نذير». 16

ومن سورة الرعد نسخت الآية 40: «فإنما عليك البلاغ المبين» بواسطة آية السيف. 17 وبآية السيف أيضاً نسخ الله الآية 89 من سورة الحِجْر ونصّها: «وقل إني أنا النذير المبين». 18

ومن سورة النحل الآية 125 التي تنص: «وجادلهم بالتي هي أحسن» الآية 54 من سورة سبحان، وهي: «وما أرسلناك عليهم وكيلاً». 19

ومن سورة طه، يأمر الله رسوله بالصبر. غير أن آية الصبر التي نسخها الله بآية السيف. والآية هي رقم 130، ونصها: «فاصبر على ما يقولون». 20

ومن سورة الحج نسخ حكم الآية 49 بآية السيف. 21 ونصها: «قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين».

وآية السيف أيضاً نسخت الآية 92 من سورة النمل، وهي: «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين». 22

ومن سورة العنكبوت نسخت آية السيف الآية 46، وهي: «لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن». 23

ومن سورة الروم نسخت الآية 60 بواسطة آية السيف والآية تأمر بالصبر، وهي: «فاصبر». 24

ومن سورة لقمان نسخت آية السيف الآية 23 ونصها: «ومن كفر فلا يحزنك كفره». 25

ومن سورة السجدة نسخت الآية 30 بواسطة آية السيف، وهي: «فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون». 26

والآية 23 من سورة فاطر: «إن أنت إلا نذير» نسختها آية السيف. 27

وآية السيف نسخت الآيتين 70 و71 من سورة ص. وهما، على التوالي: «إلا أما أنا نذير مبين» و»إصبر على ما يقولون». 28

ومن سورة حم عسق وهي سورة الشورى ذاتها نسخت آية السيف الآيتين 6 و48. وهما على التوالي: «وما أنت عليها بوكيل» «وما أنت عليهم بوكيل» و»فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا». 29

ونسخ الله، بواسطة آية السيف، من سورة الزخرف الآية 89 التي تأمر الرسول بالصفح والسلام. وهذا النص: «فاصفح عنهم وقل سلام». 30

ومن سورة ق نسخت الآية 45، وبواسطة آية السيف ونصها: «وما أنت عليهم بجبّار». 31

ونسخت آية السيف الآية 5 من سورة المعارج. وهي: «فاصبر صبراً جميلاً». 32

ومن سورة المزمل نسخت آية السيف الآية 10. وهي «واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً». 33

ونسخ الله بآية السيف أيضاً الآية 17 من سورة الطارق. ونصها: «فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً». 34

ومن سورة الغاشية نسخت آية السيف الآية 22، وهي: «لست عليهم بمسيطر». 35

ومن سورة الكافرين نسخت الآية 6 التي تنصّ: «لكم دينكم ولي ديني» بواسطة آية السيف. 36

وتجدر الملاحظة أن الناسخ يكون مدنياً وهو يكون ناسخاً لمكّي أو لمدنيّ سابق. 37

ويعدد البارزي أربعة أنواع للنسخ، هي:

– نسخ الكتاب بالكتاب

– ونسخ السنّة بالكتاب

– ونسخ السنّة بالسنّة

– ونسخ الكتاب بالسنّة

والأنواع الثلاثة الأولى جائزة، أما النوع الرابع فهو جائز عند أبي حنيفة وغير جائز عند الشافعي. 38

وتجدر الإشارة إلى أن النسخ لا يدخل إلا على الأمر والنهي. 39

بعد هذا العرض لنماذج من الآيات المنسوخة يمكننا الإجابة على السؤال الآتي الذي كنا قد صغناه سابقاً، ألا وهو: ماذا يمكن أن تكون الصفة المميزة لآيات كل مجموعة بحسب معيار الموقف من الآخر؟ ونقصد مجموعة الآيات المنسوخة ومجموعة الآيات الناسخة وغير المنسوخة.

الواضح هو أن الآيات المنسوخة تقوم على مبدأ الصبر والصفح والعفو والتساهل والسلام. وبكلمة واحدة هي تدعو الرسول للتسامح مع الآخر، وعدم أذية الآخر بأي صورة من الصور.

مقابل ذلك نجد أن الآيات الناسخة: آية السيف وآية القتال، هما على نقيض ذلك تماماً. فهما تدعوان إلى امتشاق السيف في وجه غير المسلمين والحرب عليهم. فالله أمر المسلمين، في الآيتين، بأن يكون موقفهما من الآخر، غير المسلم، موقفاً حربياً وليس موقفاً سلمياً. يقول الله: «فإذا انسلخ الأشهر الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم». والله يقول أيضاً: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر».

من هنا ومن حيث الموقف من الآخر ليس إلّا. يمكن لمن في قلوبهم مرض أو للريبيين أو ضعيفي العلم أن يقولوا بخبث وظاهر ذكاء ودماثة إن المصحف الشريف يشتمل على مجموعتين من الآيات متناقضتين بإرادة الله. وهو على كل شيء قدير. ولأن كل مجموعة تشكل جزءاً من الكتاب. هل يمكننا أن نقول، إن المصحف يتألف من جزءين متناقضين. والله على كل شيء قدير؟ وإذا اعتبرنا كل جزء من الكتاب كتاباً صغيراً أو كتيّباً، فهل يمكننا القول، إن المصحف الواحد يتألف من كتابين متناقضين؟ وبلغة أكثر دقة تعبيراً عن واقع التناقض بين مضموني الكتابين من حيث الموقف من الآخر، هل يمكننا القول، إن المصحف الواحد الشريف يتألف من قرآن سلام وقرآن حرب أو من قرآنين؟ والله، في كل حال، على كل شيء قدير.

غير أن أهم من كل ما تقدّم، هو الحقيقة الربّانية الآتية، وهي: أن قرآن السلام المشتمل على الآيات المنسوخة صار منسوخاً بإرادة الله، أي أنه لم يعد، وفقاً لأمر الله قرآن المسلمين الذي يجب العمل به. أما قرآن المسلمين، وهو قرآن واحد، بعد إزالة قرآن السلام، فهو قرآن السيف والقتال لتعميم رسالة الإسلام على العالمين. وقد يُرى استبعاد فكرة القرآنين والقول بوجود قرآن واحد إذا درسنا علم الناسخ والمنسوخ وحذفنا مجموعة الآيات المنسوخة مرة وإلى الأبد كما أمر الله سبحانه وتعالى.

أما إذا أغفلنا واقع الناسخ والمنسوخ، فسوف نُلفي أمامنا مجموعتين من الآيات متناقضتين أو جزءين من المصحف الواحد ما يمكن أن يوحي بوجود ما يشبه الكتابين أو القرآنين، من زاوية الموقف من الآخر، حصراً.

لنرجع الآن إلى بداية كلامنا، إلى الرواية عن تعليم للإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه الذي قضى بضرورة درس علم الناسخ والمنسوخ قبل أي درس آخر. ولننظر في المخاطر التي قد تترتب على إهمال هذا الدرس. وهذه أهمها:

أولاً: الظن المقلق بوجود تناقض داخلي في الكتاب الواحد. وقد شرحنا ذلك منذ قليل.

ثانياً: اعتماد الآيات المنسوخة في الدراسات الإسلامية، وما أكثرها، وفي فضّ المنازعات. وهو اعتماد باطل.

إن فهم ظاهرة النسخ عبر تأويلها تأويلاً حقاً غير ممكن إلا بمقاربة أنطولوجية يقوم بها مثقفون بفلسفة العقائد عموماً والأديان بخاصة. إذاك يقال هناك مستويان من الوجود لعمل الدعوة، إذ هناك مستويان من عمل الدعوة: مستوى الأفراد، ومستوى الجماعات الدول . مع الأفراد لا بد من الخطاب الجذّاب الذي يقرّبهم ولا يبعدهم، والذي يحاورهم ولا ينفّرهم، والذي يقضي من الدعاة أن يتمتعوا بأخلاق الصبر الجميل. وهكذا كان. فاعتنق الإسلام أفراد كثر، حتى من أوساط قريش التي كانت معادية له في أول الأمر، مثل معاوية بن أبي سفيان وقبله عمر بن الخطاب وكذلك خالد بن الوليد.

وهؤلاء الأفراد الكثر الذين عَقدَتهم العقيدة الجديدة وجمعتهم، عقيدة: «الله أحد»، صاروا جماعة موحدة، والجماعة الموحِّدة قوة، والقوة أصل السياسة أو مبدؤها. فكانت الدولة الإسلامية في المدينة وعلى رأسها رسول الله. وظهر معها مستوى جديد للعمل، ألا وهو، مستوى الدولة أو مستوى القوة.

وهنا تجلت حكم الله وفطنة رسوله الكريم. فراح الرسول يكتب إلى رؤساء الدول ما يتفق مع الوضع الجديد، نعني رسائل مختصرة تعبّر عن الدولة الجديدة ومصلحتها العليا وهي انتشار دين الله، الإسلام. لذلك نجد أن أهم عبارة في رسائل الرسول، المقتضبة إلى الرؤساء، كانت عبارة «إسلمْ تسلمْ».

وفي ما يلي بعض الأمثلة:

في كتابه إلى هرقل قيصر الروم، يذكر رسول الله: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تسلمْ». 40

وفي كتابه إلى المقوقس عظيم القبط، يذكر الكلام ذاته ويدعوه إلى الإسلام بلغة الدول، يقول له: «أسلمْ تسلمْ». 41

كذلك فعل في كتابه إلى جعفر وعبد ابني الجلندي مَلكيْ عُمان قائلاً لهما: «أسلما تسلما» ويتابع رسول الله في كتابه قائلاً: «… وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوّتي على ملككما». 42

غفلة بعض المفكرين الإسلاميين: ولأضرب بعض الأمثلة عن دراسات إسلامية طاش سهم أصحابها رغم ثقافتهم الدينية الواسعة. فقد نشرت مجلة: هذه سبيلي، بحثاً للدكتور علي عبد الواحد الوافي بعنوان «سماحة الإسلام في مناهج الدعوة إلى الله وفي موقفه حيال الأديان الأخرى وحيال أهلها»، وفيه، ولكي يشرح وجهة نظره، يعتمد على آيات منسوخة. وفي ما يأتي أمثلة من ذلك البحث تثبت صحة ما نقول. فهو يذكر: «ومن أهم المبادئ أنه عانياً الإسلام لا يُكره أحداً على ترك دينه واعتناق الإسلام. وفي هذا يقول الله تعالى: «لا إكراه في الدين…». 43 ويذكر أيضاً: «لست عليهم بمسيطر». 44 وقد مر علينا أن الآيتين المذكورتين منسوختان. وهنالك آيات منسوخة أخرى في بقية البحث.

في كتابه: بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغرّبين. وفي مجال كلامه عن «أسباب تحريك الفتنة الطائفية»، في الصفحات الثلاث الأخيرة من الكتاب، يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، في ما يقول، وعلى سبيل الاستنتاج ما يأتي: «إذن يجب أن يظل المسلمون مسلمين، وللنصارى أن يظلوا نصارى، ولليهود أن يظلوا يهوداً، إذا اختاروا ذلك، إذ «لا إكراه في الدين». 45

فهو لا يعتبر آية «لا إكراه في الدين»، بالإضافة إلى مقدمات من صياغته سبق أن ذكرها، وبالإضافة إلى اعتبارات أخرى تالية حددها إلى نهاية الكتاب، نقول، إنه يعتبر كل ذلك الأساس الذي يمنع الفتنة الطائفية بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، النصرانية واليهودية تحديداً.

غير أن الشيخ القرضاوي لم ينتبه إلى أن الآية القرآنية التي كانت السند الأقوى لأفكاره، هي آية منسوخة! والآية منسوخة بأمر من رب العالمين. والنسخ معناه الإزالة، أي حكم الآية قد أزاله الله تعالى فصار أثراً بعد عين.

لا أدري، وعِلمُ ما في الصدور عند الله، إذا كان ما حصل من قبل الشيخ قد حصل سهواً أو غفلة أو عدم درس علم الناسخ والمنسوخ الذي شدد الإمام علي بن أبي طالب أن يكون أول الدروس الإسلامية كي لا يقع الزلل وتطيش سهام الشارحين من الشيوخ الأفاضل.

وتزداد هذه الظاهرة تعقيداً، عندما نجد أن الشيخ الفاضل، وفي مجال سابق في الكتاب نفسه بعنوان: «الحكم الإسلامي خير للمسيحي من الحكم العلماني»، قد اعتمد على الآية المنسوخة نفسها مرتين متتاليتين. يقول في المرة الأولى: «فالإسلام ذو شعب أربع: عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة. فأما العقيدة والعبادة فلا يفرضها الإسلام على أحد. وفي ذلك نزلت آيتان صريحتان حاسمتان من كتاب الله: إحداهما مكّية، والأخرى مدنية، في الأولى يقول تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلعم «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». وفي الثانية يقول سبحانه في أسلوب جازم: «لا إكراه في الدين».

وفي المرة الثانية وهي التالية مباشرة، يذكر الشيخ ما يأتي: «وقد نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار كان لهم أبناء على الديانة اليهودية أو النصرانية، فأرادوا أن يجبروهم على تغيير دينهم إلى الإسلام، فنزلت الآية قاطعة مانعة «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي». 46

وقصة اعتماد الشيخ القرضاوي لم تنته هنا. فهو يلجأ إلى استعمال الآية المنسوخة ذاتها حتى في كلامه عن قضية الأحوال الشخصية والعلاقات الأسرية، في ما يتعلق بالزواج والطلاق ونحو ذلك. فيقول: «إنهم مخيرون بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرعنا». لماذا؟ يجيب: «وقد أمرنا بتركهم وما يدينون «لا إكراه في الدين». 47

أما الآية التي نسخت الآيتين اللتين تسلّح بهما الشيخ القرضاوي: آية «لا إكراه في الدين»، وآية «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» فهي كما نذكر، آية السيف. 48

وفي حوار مع السيد محمد حسين فضل الله، أجراه كمال اسطفان ونشرته جريدة «الديار» في 14/09/1989، يجيب على سؤال حول الدين الإسلامي والعنف السياسي، بما يأتي: «عندما نريد أن نتحدث عن الإسلام، أنه دين تبشيري، صحيح هذا، لأنه دين جاء للناس كافة… دين توسّعي، صحيح أيضاً، أنه يعلّم على أن يحكم العالم كما أن كل صاحب فكر يعلّم على أن يحكم العالم…».

بعد ذلك، يتكلم عن جهاد الخطّين: خط مواجهة الذين يمنعون حرية امتداد الإسلام الحكمة والموعظة الحسنة. وخط الجهاد بالدفاع عن النفس ضد المعتدين. «لأنك عندما لا تواجه العنف الذي يفرض عليك بعنف مماثل أو بطريقة أخرى فإنك لا بد من أن تفقد موقعك في الحياة».

ثم يمضي في شرح هذه الأفكار بالكلام عن كيفية انتشار الإسلام فيقول، مما يقول: «فإننا نجد أن أغلب المواقع التي دخلها الإسلام لم يدخلها بالفتح. وإنما دخلها من خلال الجانب الفكري التبشيري القائم على عدم الإكراه في الدين وعلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة». يلاحظ هنا، أن السيد الفاضل فضل الله يستند لتأييد أفكاره إلى آية: «لا إكراه في الدين» المنسوخة!

ولا يختلف الدكتور محمد عابد الجابري عن الدكتور القرضاوي في قضية الآية المنسوخة: «لا إكراه في الدين» وغيرها من الآيات المنسوخة. فالفصل الرابع من القسم الثالث من كتابه: المسألة الثقافية الذي عنوانه: الخلقية الإسلامية ضد التطرّف، معقود للتدليل على أن الإسلام «دين الوسط والاعتدال، دين التسامح والأخذ بالحكمة والتي هي أحسن». والآية المنسوخة التي يرتكز إليها الباحث هي قوله تعالى: «وجادلهم بالتي هي أحسن». 49

كما يستشهد بالآية المنسوخة: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» التي نسختها آية القتال. ثم بالآية: «لا إكراه في الدين». 50

أما المستشار محمد سعيد العشماوي فقد اجتهد في فهم النسخ فجاء معناه الحقيقي الاجتهاد وهذا ما وجدناه في كتابه عن: الإسلام السياسي حيث حدّد أصول الإسلام بأنها الرحمة والتسامح وعدم الغلوّ في الدين، وأن «جوهر الإسلام هو الحركة إلى المستقبل وصميمه التقدم المستمر لإنشاء حضارة إنسانية». ويستند إلى ظاهرة النسخ لتأييد وجهة نظره، فيقول: «إن ما حدث من نسخ لآياتٍ بآياتٍ أخرى كلما جدّ جديد أو وقع واقع لا يعني مجرد نقل الناس من حكم إلى حكم، لكنه يفيد في حقيقته معنى الحركة المستمرة مع الوقائع والتقدم المتصل على الأحداث والفعل النشط لتغيير الحياة». ويضيف قائلاً: «لقد فهم المسلمون الأوائل أن هذه هي الأصولية الحقيقية للإسلام». 51

فالنسخ، حقيقة، هو في الاجتهاد بحسب الظروف. لذلك اجتهد العشماوي فميّز بين قرآن الرحمة وقرآن السياسة أو بين الأصولية الروحية التي ينادي به ويدعو إليها الأصولية الحركية السياسية . وذكر في معرض مقابلته بين الأصوليتين أنهما تختلفان في خمس مسائل، هي: «الأسلوب المنتهج في فهم ألفاظ القرآن الكريم، والطريق المتبع في تفسير آيات القرآن الكريم، ونظام السلوك في الحياة، والفهم الحضاري للدين، ووضع السلطة السياسية والمتفقهين في الدين». 52

وكل ذلك، من أجل أن يؤكد مبدأ الاجتهاد فيعتمده لعرض اجتهاده. وسنده، كما أسلفنا منذ قليل، في ظاهرة النسخ. وكأني به يقول: إذا كان الله مجتهداً، فلماذا لا يجتهد المؤمنون؟ كما يشير إلى أمثلة يعود تاريخها إلى الخلفاء. فقد منع عمر بن الخطاب زواج المتعة بالرغم من ورود نص قرآني حوله: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن». كما يذكر أن الخليفة عمر أوقف حكم المؤلفة قلوبهم وأوقف حدّ السرقة. 53

وفي فصل خاص عن الجهاد، ينشئ الباحث تمييزاً حاداً بين الجهاد الأخلاقي من حيث هو أسلوب كريم وباعث قوي ودافع سام للارتقاء بالذات والسموّ بالنفس والعلوّ بالروح ويشمل أيضاً الدفاع عن النفس، والجهاد السياسي القتالي. وهو يؤيد النوع الأول من الجهاد ويرفض الثاني. يقول: «إن بعض الناس يرون أنه من الأيسر لهم أن يشهروا السيوف من أن يوحدوا الضمائر، وأن يعلنوا الحروب من أن ينقّوا القلوب، وأن يقتلوا الناس بدلاً من أن يحيوا الجميع، ولذلك فقد جعلوا من الجهاد سيفاً وحرباً وقتلاً، وفي الصحيح أنه ضمير وقلب وحياة». 54

وفي إشارة منه إلى الحضارة العالمية ومحورها العالم الغربي، يرى الباحث أنها «ليست كلها شراً. ففي هذه الحضارة قيم رفيعة في النظام والنظافة والأمانة والدقة والتجديد والتخطيط والتعاون والدراسة والبحث وروح خدمة الغير. 55

وينتقد جماعات تيار التسييس لرفضهم القيم الرفيعة للحضارة في الوقت نفسه الذي يحصل فيه انكباب على منتجاتها المادية. 56

خلاصة أطروحة كتاب العشماوي هي في أن القرآن كتاب روحي أخلاقي وليس كتاباً سياسياً. وعلى ضوء هذه الفرضية يعمل مجتهداً فيرى أن كل مفردات القرآن، حتى لفظ «الحكم» الوارد فيه، لا يفيد السياسة من قريب أو بعيد. 57

غداً حلقة ثانية

هوامش:

1 – العتائقي، كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الحلبي. الناسخ والمنسوخ، حققه وعلق عليه عبد الهادي الفضلي، ص 22. أما أمير المؤمنين الوارد ذكره في الرواية فهو الإمام علي بن أبي طالب.

2 – البغدادي، هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي. الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، دراسة وتحقيق الدكتور موسى بناي علوان العليلي، الدار العربية للموسوعات، 1989، ص 11.

3 – وهذه الصور هي أمّ الكتاب: سورة يوسف، سورة إبراهيم، سورة الكهف، سورة الحجرات، الرحمن، الحديد، الصف، الجمعة، التحريم، الملك، الحاقّة، سورة نوح، الجنّ، المرسلات، النبأ، النازعات، سورة المطففين، الانشقاق، البروج، الفجر، البلد، الشمس، الليل، الضحى، سورة ألم نشرح، القلم، لم يكن، الزلزلة، العاديات، القارعة، التكاثر، الهمزة، الفيل، قريش، الدين، الكوثر، النصر، تُبّت، الإخلاص، الفلق، والناس. انظر العتائقي الناسخ والمنسوخ، ص 24.

4 – والسور هي: الفتح، الحشر، سورة المنافقين، التغابن، الطلاق، وسورة الأعلى. المرجع السابق ص 25.

5 -وهذه السور هي: سورة الإنعام، الأعراف، يونس، هود، الرعد، الحجر، النحل، سورة بني إسرائيل، طه، المؤمنين، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، الملائكة، سورة يس، الصافّات، وسورة ص، والزمر، المصابيح، الزخرف، الدخان، الشريعة، الأحقاف، سورة محمد، الباسقات، النجم، القمر، الامتحان، سورة ف، المعارج، المدّثر، القيامة، الإنسان، سورة عبس، الانفطار، الطارق، الغاشية، التين، والكافرون، المرجع السابق، ص 25.

6 – وهي: سور البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، مريم، الأنبياء، الحج، النور، الفرقان، الشعراء، الأحزاب، وسورة سبأ، المؤمن، الشورى، الذاريات، الطور، الواقعة، المجادلة، المزقّل، التكوير، والعصر، المرجع السابق ص 26.

7 – سورة النحل: آية 101.

8 – سورة البقرة: آية 106.

9 – ابن البارزي. ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه، تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، 1983، ص 22. آية السيف هي الآية 5 من سورة التوبة. وآية القتال هي الآية 29 من نفس السورة.

10 – ابن البارزي ص 22.

11 – المرجع السابق، ص 26-23.

12 – المرجع السابق، ص 27.

13 – المرجع السابق، ص 28.

14 – المرجع السابق، ص 31.

15 – المرجع السابق، ص 36.

16 – المرجع السابق، ص 36.

17 – المرجع السابق، ص 37.

18 – المرجع السابق، ص 38.

19 – المرجع السابق، ص 39.

20 – المرجع السابق، ص 40.

21 – المرجع السابق، ص 41.

22 – المرجع السابق، ص 44.

23 – المرجع السابق، ص 44.

24 – المرجع السابق، ص 44.

25 – المرجع السابق، ص 45.

26 – المرجع السابق، ص 45.

27 – المرجع السابق، ص 46.

28 – المرجع السابق، ص 46.

29 – المرجع السابق، ص 47-48.

30 – المرجع السابق، ص 49.

31 – المرجع السابق، ص 50.

32 – المرجع السابق، ص 54.

33 – المرجع السابق، ص 55.

34 – المرجع السابق، ص 57.

35 – المرجع السابق، ص 57.

36 – المرجع السابق، ص 58.

37 – المرجع السابق، ص 59.

38 – المرجع السابق، ص 20.

39 – العتائقي. الناسخ والمنسوخ، ص 26.

40 – أحمد زكي صفوت، جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، الجزء الأول، العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام ، الطبعة الأولى، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1356 هـ 1937 م، ص 33-32.

41 – المرجع السابق، ص 38.

42 – المرجع السابق، ص 46. وذكره أيضاً: فالح حنظل. رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم وموفدوه إلى ملوك وحكّام الخليج وشبه الجزيرة العربية: البحرين، اليمامة، وعمان، ص 99.

43 – مجلة: هذه سبيلي ، العدد الأول، السنة الأولى، 1398 هـ، ص 75. وهذه المجلة يصفها أصحابها بأنها مجلة علمية نصف سنوية تصدر عن المعهد العالي للدعوة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .

44 – المرجع السابق، ص 76.

45 – قرضاوي، يوسف. بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمغتربين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ 1988 م، ص 267.

46 – المرجع السابق، ص 236.

47 – المرجع السابق، ص 238.

48 – لا إكراه في الدين هي الآية 256 من سورة البقرة. والآية أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين هي الآية 99 من سورة.

49 – الجابري، محمد عابد. المسألة الثقافية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 136. الآية المشار إليها هي الآية 125 من سورة النحل التي نسختها آية السيف. انظر البارزي، ص 38.

50 – المرجع السابق، ص 137. انظر البارزي أيضاً، ص 44.

51 – العشماوي، محمد سعيد. الإسلام السياسي، طبعة ثالثة، سينا للنشر، 1992، ص 141.

52 – المرجع السابق، ص 138.

53 – المرجع السابق، ص 57-56.

54 – المرجع السابق، ص 117-116.

55 – المرجع السابق، ص 76-77.

56 – المرجع السابق، ص 77.

57 – المرجع السابق، ص 46.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى