طه حسين مع أبي العلاء في سجنه… منارتا هداية في عتمة الزمن التكفيريّ
جورج كعدي
ضريران، قمّتان في الفكر والشعر والأدب، جمعتهما وحدة المعاناة البصرية، إنما ميّزتهما أكثر بما لا يُقاس عظمة البصيرة ونور العقل ورفعة الموهبة والعمق الإنساني الذي لا يضاهى، إلاّ لدى الكبار من طينتهما. أبو العلاء المعري وطه حسين عملاقان منارتان، ما برحا لنا، وللأجيال المتعاقبة، مرجعاً وهداية، خاصة حين يستبدّ بأمّتنا المصابة بعمى البصيرة، الأفدح من عمى البصر، والغارقة في ظلمات العصبيّة الدينيّة المريضة ودياميس الطائفيّة والمذهبيّة، الجهل وغياب العقل وانفلات الغريزة وطغيان التكفير وانتشار الإرهاب والموت وتفشي الجهل والرِجعة والتخلف.
وسط هذا الظلام الدامس، تتبدّى العودة إلى العقول النيّرة، العميقة الإنسانية، المتحضّرة والمتمدّنة والمتقدّمة على زمنها، بالرؤيا والبصيرة والوعي معاً، حاجة ملحّة، ضرورية جداً، لاسترجاع النور والأمل وصفاء العقل. ومن أبدع العقول النيّرة التي جاد علينا الدهر بها هذان الفاقدان نعمة البصر إنّما المعوّض عليهما بالنِعم الأعظم فكراً نيّراً وموهبة استثنائية وبصيرة مشعّة ورؤيا استشرافية عميقة وحسّاً إنسانياً رفيعاً وأسلوباً نثريّاً وشعريّاً ذا سحر وإعجاز. وتتحقق لنا هذه العودة من خلال مؤلّف كلاسيكيّ قيّم يجمع هذين العَلَمين، أحدهما كاتباً عن الآخر ومحلّلاً شخصه وإرثه الأدبيّ والشعريّ والفكريّ الفلسفيّ، أعني طه حسين في كتابه الرائع «مع أبي العلاء في سجنه»، وتكفي دلالة أن بين يديّ الطبعة الثالثة عشرة من الكتاب التحفة للمبدع المصريّ الفذّ، أحد أشهر أدباء وباحثي زمنه وكلّ زمن، باتّاً فيه حبّه لفيلسوف المعرّة وشاعرها، الذي يكفّره ظلاميّو «آخر زمن» المتخلّفون المتوحّشون الملعونون من الأرض والسماء، أبناء جهنّم، أعداء الله والإنسان والدين والعقل والنور، القابعون سعداء هانئون في جهلهم وظلام عقولهم وقلوبهم، بل هم حطّموا حتى تمثال العظيم الخالد أبي العلاء في مسقطه معرّة النعمان، ليؤكّدوا بفعلتهم أنّهم أرباب الجهل وأعداء العقل وأسياد التعصّب والأمّية، وأنّهم أبناء الشيطان يدعون. لكن ما لنا ولهم، أبو العلاء المعرّي هو الخالد، وهم الزائلون، بلا أسماء وبلا ذكر وبلا وجوه، تطاردهم لعنة الله والبشر إلى قاع جهنّم أو أقصى العدم.
برقّة وتأنٍّ يدنو طه حسين من أبي العلاء في «سجنه» قائلاً: «أنا شديد الإشفاق على أبي العلاء من نفسه قبل كل شيء وقبل كلّ إنسان. فلم يظلمه أحد قطّ كما ظلم نفسه، ولم يكلّفه أحد قط من الجهد والعناء ومن المشقة والمكروه مثل ما كلّف نفسه نحو خمسين عاماً. ولم يفتن أبو العلاء في شيء كما أفتن في ظلم نفسه وتحميلها ما تطيق وما لا تطيق وأخذها بالمكروه في حياتها العملية والعقلية أيضاً. وأوّل ما ألاحظه من ظلم أبي العلاء نفسه اقتناعه بأنّه سجين، وامتناعه عن أن يرى لنفسه سجناً واحداً، بل عن أن يرى لنفسه سجنين، وإباؤه إلاّ أن تكون لها سجون ثلاثة يذكرها في البيتين اللذين رويتهما آنفاً: أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث. فأنت ترى أن أبا العلاء لم يكتفِ بالسجن الذي فرضته الطبيعة عليه فرضاً حين أفقدته ناظره كما يقول، وإنّما فرض على نفسه سجنين آخرين. أحدهما ظاهر محسّ يراه الناس جميعاً ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع والألم الممض، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء لا يريمه، وفرض على نفسه لزومه مهما تكن الظروف وطلب إلى أهل المعرّة ألاّ يخرجوه منه حتى حين يغير الروم على المدينة. والآخر سجن فلسفيّ تخيّله كما يتخيّل الشعراء، واشتقّه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة. وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه القعل والخيال جميعاً!»، ويتابع طه حسين في السياق نفسه في مقطع لاحق: «أقام أبو العلاء في سجنه الفلسفيّ هذا نحو خمسين عاماً، أو استكشف ذات يوم أثناء إقامته ببغداد أو أثناء عودته منها أو بعد أن استقرّ في المعرّة أنه مقيم في هذا السجن منذ رشد وبَلا لذات التفكير وآلامه. فجعل منذ استكشف سجنه الفلسفي هذا يبلوه من جميع نواحيه ويختبره على أيّ موضع من أوضاعه، ولا يرى من هذا البلاء والاختبار إلاّ شرّاً متصلاً وألماً مقيماً. وقد كان يدركه التعب ويبلغ منه الإعياء فيستسلم إلى القنوط ويستريح إلى اليأس حيناً، ثم لا يلبث أن يستردّ رجاءه أو قل أن يستردّ نشاطه، فيستأنف البحث والدرس ويعاود الابتلاء والاختبار ويحاول الصعود بعقله إلى السماء فيُردّ عنها مدحوراً … ».
العقل ناموس وركيزة وإمام لأبي العلاء في نظرته الشاملة إلى أمور الدنيا والما وراء، علماً أن هذا العقل قد يجلب الألم والشقاء للإنسان مفكراً ناطقاً، «فسترى ـ يقول طه حسين ـ الإنسان أشقى الكائنات لأنّه مفكّر، ولأن تفكيره يضطرّه إلى ألوان من الآلام وضروب من اليأس والقنوط لا يحدّها كائن غيره. فهو أي العقل يضطره إلى الشك، ويَلبُسَ الأمر عليه فيورّطه في الحيرة وآلامها، وهو قد يبين له الشرّ ولكنه يبين له في الوقت نفسه قصور عن أن يبلغها كاملة وقصوره عن أن يحتفظ بأيسر ما يبلغه منها، وهو قد يبين له الشقاء، ولكنّه يبين له في الوقت نفسه اضطراره إليه ولزومه له وإخفاقه المحتوم كلّما حاول أن يخلص من أقلّه وأيسر، وهو قد يبين له اللذّة المادية، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أنه عاجز عن أن يبلغ خيرها وأكملها، كما يبين له أن ما يحصّله من أيسرها وأهونها لا يكاد ينقضي حتى يعقبه من الآلام والحسرات ما يعدل أضعاف ما أصاب من نعيم ومتعة، وهو قد يبين له الألم، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أن أنواع هذا الألم لا تعدّ، وأن ضروبها لا تحصى، وأنه لا يخلص من بعضها إلاّ لتهجم به غرائزه الخاصة أو الأقدار التي لا يملك تصريفها ولا دفعها على ما هو شرّ منها وأمضّ وأسوأ عاقبة وأبلغ أثراً. فإذا تركت الإنسان إلى ما يرى الفلاسفة أنه دونه من الكائنات فسترى هذه الكائنات أحسن حظاً من الإنسان لأنها قد سُلبت هذا العقل، وحُرمت هذا التفكير.
فالحيوان يألم ويشقى، وهو يلذّ ويسعد، ولكنه لا يقدّر الألم والشقاء واللذة والسعادة كما يقدّرها الإنسان. والحيوان تتفاوت أنواعه فيما بينها بمقدار ما أتيح لها من الحس والشعور وبمقدار ما أتيح لها من قوة الغرائز وضعفها. فكلّما قوي حظ الحيوان من الحس والشعور والغرائز قوي حسّه للألم وشعوره به وإشفاقه منه، وقوي حرصه على اللذة وتتبعه لها وتوقعه إيّاها وألمه للعجز عن بلوغها والقصور عن تحصيلها. فإذا تجاوزت الحياة إلى النبات فقد بلغت جنساً من الكائنات له حظ من حياة ولكنه ضئيل بالقياس إلى حظ الحيوان. وإذن فحظه من الألم لا يكاد يذكر ولعلّه لا يكون موجوداً. فإذا تركت النبات إلى ما هو أدنى منه رتبة وأحطّ منه طبقة عند الفلاسفة، إلى الجماد الذي لا حظّ له من حياة ولا حظّ له من حسّ ولا حظّ له من إرادة ولا حظّ له من تفكير، فهناك السعادة العظمى التي لا ينغصّها شقاء، وهناك الراحة الكبرى التي لا يشوبها ألم. وإذن فلِمَ مُنح هذا السجين حياته هذه القوية العنيفة التي تستتبع الحس والحركة والإرادة والتفكير، وتستتبع بحكم ذلك الألم والبؤس والشقاء والحرمان الذي هو أصل الشقاء. ومن هنا يتمنّى أبو العلاء حين لا ينفع التمنّي، ويودّ حين لا ينفع الودّ، ويبكي حين لا يجدي البكاء، ويكون تمنّيه وودّه وبكاؤه مصدر شقاء وحسرات تضاف إلى ما هو فيه من شقاء وحسرات. فهو يغبط الحيوان لأنّه لا يعرف الخير والشرّ، ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف. وهو مع ذلك يرثي له من الألم الذي يجده، والشقاء الذي شعر به، والمكروه الذي يتعرّض له. ولكنّه يغبط الجماد إلى أبعد حد ممكن، ويرسل أصواتأً تمتلئ بالحسرة واللوعة لأنه لم يظل جماداً كما كان فهو قد كان جماداً في سالف الدهر: «والذي حارت البريّة فيه حيوان مستحدث من جماد»، وهو صائر إلى الجماد في مستقبل الدهر: «خفّف الوطء ما أظنّ أديم الـ أرض إلاّ من هذه الأجساد».
يشير طه حسين بروح الدارس المتعمّق إلى الشك المؤلم الذي أضنى أبا العلاء وعذّبه أشدّ العذاب، متخيّلاً فيلسوف العرّة وشاعرها سائلاً: «خالق حكيم، خلق هذا العالم وترّبه على هذا النحو الذي رتّبه عليه. ولكن لماذا وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كلّه أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟ لقد قالت الديانات لأبي العلاء أشياء كثيرة ولكنها فيما بينها مختلفة أشدّ الاختلاف، متناقضة أشدّ التناقض. فلأيّها يسمع وبأيّها يؤمن؟»، مؤكداً على إيمان المعرّي الأقوى بالعقل ودالاًّ لديه على صفة الكبرياء: «أظن أن العلّة الحقيقية التي شقى بها أبو العلاء خمسين عاماً إنّما هي الكبرياء. الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق وإلى الطمع فيما لا مطمع فيه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله، وأسرف أبو العلاء في الثقة بهذا العقل، ورفض كل شيء سواه يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء كذلك الظن لا إمام سوى العقـ ل مشيراً في صبحه والمساء فإذا ما أطعته جلب الرحـ مة عند المسير والإرساء …»، بيد أن كاتب «الأيام» يستدرك قائلاً: «فالعقل مهما يكن جوهره ومهما تكن طبيعته إنسانيّ أيّ محدود. محدود الطاقة محدود المعرفة كغيره من ملكات الإنسان. فالغريب أن يتخذ العقل المحدود سبيلاً إلى ما لا حدّ له، وأن تتخذ هذه الآلة القاصرة المتواضعة سبيلاً إلى بلوغ ما لا تستطيع بلوغه. والغريب أن يشعر أبو العلاء بأنه لا يستطيع أن يرقى إلى النجوم بجسمه وبأنّه من الحمق أن يتكلّف هذا الرقى: وكيف صعودي إلى الثُر يا بلا سُلَّمِ».
مقتطف
رأى أبو العلاء أنّ الشرّ غريزة في الحيوان قد برئ منها الجماد. فالشر يدور مع الحياة وجوداً وعدماً، وهو يُقوّى كلما قوي حظ الكائن من الحياة، ويبلغ أقصاه حتى يبلغ حظ الكائن من الحياة غايته، فيجمع الحس والشعور والإرادة والعقل. وهذه الفكرة هي التي فصلتها في أول هذا الحديث، هي شائعة في اللزوميات وفي الفصول والغايات جميعاً. والمثل الذي ضربه أبو العلاء في هذا الفصل لا يخلو من دلالة، فهذا عاثر قد عثر بحجر في طريقه فدميت إصبعه فأيهما المسؤول عن هذا الشر؟ ليس هو الحجر من غير شك ولكنه واضع الحجر في موضعه، هذا الذي جعله عرضة لأن يؤذي من قد يمر فيعثر به، والعاثر نفسه لأنه لم يتبيّن موضع قدمه ولم يقدّر لرجله موضعها قبل الخطو كما يقول الشاعر القديم.
وما ينبغي أن نقف عند المعنى القريب لهذه الجملة من حديث أبي العلاء، فأبو العلاء أذكى وأعمق فلسفة من أن يقف عند هذا المعنى في تفكيره، فكن أنت من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث تستطيع أن تسمو معه إلى ما أراد. وأكبر الظن أنّ هذه الصورة المادية رمز لصور معنوية كثيرة. فما يكون في حياة الناس من شرّ يتصل بأجسامهم وأعمالهم وإرادتهم وسيرتهم بوجه عام، إنما ينحلّ في حقيقة الأمر إلى نوعين من أنواع التبعة. أحدهما تبعة الذي هيأ أسباب هذا الشر وجعلها في مواضعها من حياة الناس بحيث يعثرون بها ويتورّطون فيها. فلو لم تتهيأ هذه الأسباب لما عثر الناس ولا تورطوا، فهذه تبعة إيجابية هي تبعة خلق العالم كما هو وفيه ما فيه من أسباب الشر.
والنوع الثاني تبعة الناس الذين يَرونَ أسباب الشرّ فلا يتجنبونها ولا يعدلون بأنفسه عنها، وإنما يقبلون عليها ويسرعون إليها: فهذه تبعة سلبية. وأيسر ما يستخلص من تحقيق هاتين التبعتين أن الإنسان ليس مسؤولاً كل السؤال عن سيئاته، لأنه لم يبتكر أسبابها ولم يخلق دواعيها ولم ينصب أشراكها في طريقه. ولكنه في الوقت نفسه ليس معفى كل الإعفاء من هذه السيئات لأنّ له عقلاً يهديه في هذه الطريق ويدلّه على مواضع هذه الأشراك، فمن الحق عليه أن يهتدي وهو ملوم إذا لم يفعل. وإذن فهو الجبر الملطف، إن صح هذا التعبير، الجبر الذي يعذر الإنسان بعض العذر ولكنه لا يعفيه من التبعات كلها.
الجبر الذي يبيح لأبي العلاء أن يلوم الناس على آثامهم ويأمرهم بالخير، ويفرض عليه أن يحتاط لنفسه فيصطنع الخير ما وجد إلى ذلك سبيلاً ويكف أذاه عن الأحياء ما وسعه أن يكف أذاه عنهم.
وهذا الرأي من آراء أبي العلاء شائع في اللزوميات شيوعاً شديداً على تفاوت في ذلك، فهو مرة يسرف في الجبر، ومرة يقتصد فيه، وهو على كل حال يؤمنُ بمقدار منه يُتيح له أن يطمع في العفو مهما تعظم السيئات إذا كانت التوبة النصوح. على أنه قد يسوء ظنه ويشتدّ خوفه ويعظم يأسه فيكاد يقنط من رَوح الله قنوطاً.
هذا كله حين يُفكر في نفسه وفي الناس وفي حياتهم العاملة، وفيما قد يصيبهم أو لا يصيبهم من التبعات. أما إذا فكر في الأمر تفكيراً فلسفياً مطلقاً فهو يمضي في الجبر إلى أبعد حدوده، ولعله يتجاوز الجبر إلى ما هو أعظم منه خطراً، فلا ينكر التكليف ولا يجادل في أن الثواب والعقاب عدل، وإنما ينكر البعث إنكاراً ويصبح مادياً أبيقورياً بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها في وقت واحد…
والشيء الثاني الذي أريد تسجيله من هذا الفصل هو رأي أبي العلاء في النفس، وهو رأي يثبته في اللزوميات كما يثبته هنا، وهو متصل بالرأي الذي صوّرته آنفاً. فالحياة مصدر الشرّ لأن النفس مصدر الحياة، والجسم من غير النفس جماد لا يحسن ولا يُسيء، وإنما يبدأ إحسانه وإساءته حين تنبعث منه النفس فيحيا. وأبو العلاء يلومُ نفسه ويزجرها، ويرى أنها تحاول أن تخدعه وتغشه، ويأبى عليها هذا الغش وذلك الخداع، ويعلن إليها أنّه لو استطاع فراقها لفعل فطلقها كما تطلق الزوج، أو أعتقها كما تعتق الأمّة، أو ذبحها كما تذبح الشاة، وهو على كل حال يدعوها إلى فراقه وإلى أن تزل بعد هذا الفراق حيث تشاء.
ورأى أبي العلاء هذا في النفس مثبت في اللزوميات كما قدمت. واقرأ قوله:
أعائبةٌ جسدي روحه
وما زال يخدم حتى ونى
وقد كلّفته أعاجيبها
فطوراً فرادى وطوراً ثُنا؟
والمهم هو أن نعرف من الذي يتحدث إلى نفس أبي العلاء بهذا الحديث. ليس هو جسم أبي العلاء من غير شك، فالجسم وحده جامد هامد لا يرسل حديثاً ولا يرجع صدى. وليست هي نفس أبي العلاء من غير شك، فالنفس لا تتحدث إلى نفسها بهذا الحديث ولا تنذر نفسها هذا النذير ولا تأمر نفسها بفراق نفسها. وإذن فهو العقل الذي ينظر إلى النفس والجسم جميعاً، ويفكر فيهما وفيما بينهما من صلة، ويمتاز منهما ويصرفهما إن استطاع تصريفهما فيما يريد. فالشخص الإنساني عند أبي العلاء مثلث لا مزدوج. جسم لا يحسن ولا يسيء، وإنما هو خادم مسير لسيده أو قل لسيدته، ونفس تسيء بطبعها ولا تحسن إلاّ أن تهدى فتهتدي، وعقل يحاول أن يدبر أمر النفس والجسم جميعاً. وهذا التثليث في شخص الإنسان أبيقوري أيضاً. فأبيقور يصور الفرد الإنساني ويصور بعده لوكريس على أنه جسم تشيع فيه نفس، هي مصدر الحركة والشعور والحس وهي مصدر الحياة، وعقل مستقر في الصدر هو الذي يأمر النفس فتعمل وينهاها فتكف.
ولكن الأبيقوريين لا يرون خلود النفس ولا يرون خلود العقل، وإنما يرون أن الموت يحل الجسم والنفس والعقل جميعاً، وأن مادة هذه الكائنات الثلاثة تنحل بعد الموت إلى أصولها وتستأنف وجودها وتطورها المادي على نحو ما كانت قبل وجود الفرد.
أمّا أبو العلاء فقد اضطرب في هذا أشد الاضطراب، لأنه قرأ فلسفة الفلاسفة الذين يرون خلود النفس ولم يقو على جحدها كما جحدها الأبيقوريون، وعرف الديانات السماوية وفيها ما فيها من أمر البعث والنشور فلم يزده هذا إلا اضطراباً إلى اضطراب. وإذا هو ينكر البعث حيناً ويثبته حيناً، ويرى خلود النفس مرة وفناءها مرة أخرى، ويقطع من مذهب الأبيقوريين بفناء الجسم وتفرّقه بعد الموت وخضوعه لكل ما تخضع له المادة من ألوان التطوّر والانتقال.
وقد فكّر أبو العلاء في هذا كلّه وفي غير هذا كلّه من الأمور الفلسفية منذ عهد الشباب ولم يبلغ الثلاثين، حتى كان رأيه في أمر سيرته على الأقل قد استقر.
وهذا هو الشيء الثالث الذي أريد تسجيله من هذا الفصل، والذي أراه عظيم الخطر جداً في تاريخ الحياة الفلسفية لأبي العلاء. ويكفي أن تقرأ هذه القطعة لترى أن أبا العلاء لم يبلغ الثلاثين حتى غيّر حياته التي كان يشارك الناس فيها واستأنف حياة جديدة هي التي أنتجت لنا اللزوميات والفصول والغايات.
«ما زلتُ آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كَملاً ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملاً أبرق، بياضه الأيام وسواده لياليه. وهيهات! كأنني قتلت بالسنة حية عرماء! إن الزمن كثير الشرور. فلما تقضّت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحُباحب، علمتُ أن الخير مني غير قريب!».
ثم يمضي أبو العلاء بعد ذلك في ألوان من الوعظ إن صوّرت شيئاً فإنما تصوّر أخصّ ما أخذ نفسه به من خصال الخير.