الأنظمة الطائفيّة تنتج الأزمات المتلاحقة
شبلي بدر
عندما رسم الجنرال الفرنسي غورو خريطة «لبنان الكبير»ووضع لمساته الانتدابية في مواد دستوره، كان يعلم علم اليقين أنه يؤسس لكيان طائفي بامتياز لا يمكن لمكوناته وفئاته الاجتماعية أن تتحد يوماً في أمر مصيري، فمع حفنة من اللبنانيين المهرِّجين في سيرك الانتداب آنذاك جعل من الطوائف مرجعيات يصعب تجاوزها في أمور يعود إليها حصراً البت في شؤونها المدنية، ما أضعف بنية الدولة ووضع «المحرمات» في طريقها منعاً لتجاوزها الحالة الطائفية والانتقال الى مصاف الدول التي تفصل بين الدين والدولة.
لم يكن استقلال الدولة اللبنانية الحديثة وقفاً على إرادة ابنائها، على النحو المتعارف عليه في بناء الدول المتقدمة حيث يخضع إقامة كيان سياسي ما لاستفتاء شعبي يقرر مصير ذلك الكيان المنوي إقامته. بل كان انسلاخاً عن جواره، إمعاناً في تمزيق جيوسياسي عمل الانتداب على فرضه عبر اتفاق فرنسي بريطاني مشؤوم لم تعد خلفياته خافية على أحد. ومنذ أن قُسِّمت المسؤوليات والمناصب على الطوائف تحصنت كل طائفة في خنادقها الطائفية والمذهبية، وهي تستميت في الحفاظ على «حقوقها» التي تتعارك لأجلها مع الطوائف الأخرى عند كل استحقاق يحين موعده.
مع أوَّل رئيس جمهورية لبنانية تسلَّم مسؤولياته نشأت أزمة طائفية ما زالت قائمة إلى اليوم، إذ لا يمكن أن ينتج نظام كهذا إلا الأزمات الوطنية المتلاحقة، انطلاقاً من نصوص الدستور التي كرست هذه الأزمات حتى أصبحت عرفاً، وهذا ما نراه في عدم القدرة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتنظيم الشغور في هذا المركز في ظل فراغ رئاسي أسموه «شغوراً» لفظة تخفيفية لواقع حاصل . فلو اكتفت طوائف المراكز الأولى الثلاثة في الدولة اللبنانية بالمحافظة على «حقوقها» لهان الأمر، لكن طائفيتها تمددت الى التدخل في شؤون الطوائف الأخرى، فكل طائفة تريد تدوير زواياها الطائفية برئيس يكون متوافقاً مع ما تتمناه وما يخدم مصالحها في عهده الرئاسي، ولا تترك لأصحاب الشأن القول الفصل في هذا الأمر، حتى وصلت الوقاحة في بعض «ممثلي الشعب» إلى حدّ إعطاء أصواتهم في تمثيلية هزلية لمرشح أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه مجرم وقاتل مدان من أعلى السلطات القضائية اللبنانية، ومفرج عنه بعفو خاص لظروف أشد طائفية وأبشع عنصرية في التاريخ الحديث.
في ظل هذه الأزمات الطائفية المتلاحقة أصبح لزاماً على الشعب اللبناني أن ينتج دستوراً عصرياً يواكب التطورات الإقليمية والدولية وأن يأخذ عبرة مما يحصل حوله في الدول المتحررة من نير الاستعمار والاستكبار العالمي، التي تجهد في كسر أحادية القرار العالمي الظالم لمصلحة الشعوب التائقة الى الحرية والاستقلال، دول علمانية متنورة وضعت الدين الحقيقي في مقامه السامي وفصلت بينه وبين السياسة، ورغم تعدد فئات شعوبها ومكوناتها الاجتماعية، تمّت انتخاباتها على أسس قومية ووطنية ترفض التكفير وفتاوى الإهانات المذلة، ولم تسع الى «تدوير الزوايا « مثلما يحصل الآن على الساحة المحلية، بل أعطت القوس لباريها ولقيادة صمدت في أعتى الحروب وانتصرت، إذ ترفض رفضاً مطلقاً أن تخضع لموفدين يأتونها تحت شعار التشاور أو تقديم نصائح ما هي إلا إملاءات غربية واستعمارية مكشوفة، بل تركت لمواطنيها وحدهم حق الاختيار الصحيح.