عهدنا… كلمة شرف
د. سلوى خليل الأمين
هو المكان… والزمان… حكاية من دفق السنا وعطر المداد والدم المنثال عطراً فوق أرض الجنوب وبالتحديد فوق روابي الحجير وترابه البكر.
هو التاريخ المؤزَّر بالنصر الواقف على حدّ السيف مجداً، يرفُّ على جناحات غمامات، ظللت وادي الحجير بألف راية نصر وعز وافتخار.
هو المجهود الشريف، والنضال المتماسك، والجهاد المرفوع أغاريد بوح وانتشاء، يرسم على شغاف القلوب ومراح العقول… رفيفه والسنا.
ذات يوم في تموز من العام 2006 استفقنا على عدوان «إسرائيلي» همجي، لم نخف قنابلهم الذكية، ولم نختبئ في ملاجئ البنايات المعدّة للسكن، ولم نرفع النحيب لوماً وعتاباً لأننا كنا واثقين من قدرة وصمود رجال الله في الميدان، وأنهم قادرون على رفع النصر على جبين الوطن مهما غلت التضحيات، وكنا نردّد القول، عند أول مصيبة تقع علينا من همجيتهم: «فدا السيد».
وكان ما كان، رجال عاهدوا الله الدفاع عن الأرض والعرض وكرامة الوطن، لم يهدأوا في الليلة الظلماء ولم يستكينوا في ليالي الحشر والفجر الملوث بخزعبلات بني صهيون وشرورهم، وآخرون تخاذلوا وشتموا ووزعوا بياناتهم المغرضة انتظارات هزائم للمقاومة، التي رفع رجالها قبضات سيوفهم في الميدان، ملبين النداء «لبيك يا نصرالله» ببسالة وشجاعة مؤمنة بهزيمة العدو، وشموخ الوطن، واسترجاع كرامة الأمة، وكان ما كان من نصر مؤزَّر، أدهش العالم كله، بمن فيهم قادة بني صهيون، الذين سجلوا في صحائفهم التلمودية ومنها « لجنة فينوغراد» فضيحة هزيمتهم النكراء، التي غيّرت استراتيجيات حروبهم العدوانية على لبنان، بحيث باتوا يخافون الانكسار والانهزام وهم لم يتعودوه سابقاً، بسبب عدم قدرتهم على مواجهة رجال المقاومة في الميدان، وخصوصاً بعد المعركة الأخيرة، معركة وادي الحجير التي حطمت أسطورة الـ»ميركافا» التي كانوا يفخرون بسيطرتها الحربية في المعارك التي خاضوها ضدّ العرب، وبتنا نسرح ونمرح في أرضنا الجنوبية وكلنا ثقة بالأمن والأمان، الذين وفرهما لنا رجال المقاومة بعد عصور من النكبات والتهجير.
ليس هناك ما هو أنقى وأجمل من عبير النصر والصدق والوفاء، وكيف لا يكون الوفاء وفاء، ووعداً صادقاً من قائد النصر، وسيد العهد والوعد سماحة السيد حسن نصر الله، مرتفعاً في وادي الحجير، صارخاً بجدية الموقف ومدى أهمية وضع الرقاب مع الرقاب في أوقات الضرورة الوطنية خاصة، وبأهمية عدم الطعن في الظهر خلال معركة مع العدو الصهيوني، هي الحدّ الفاصل لأهمية أن يكون الوطن أو لا يكون، لهذا قالها السيد علناً، وبحزم الوفاء الذي هو عليه، للشريك اللبناني الوطني والأصيل الجنرال ميشال عون، بعد أن أصاب الصمم الضمائر التي شاطرت العدو رهاناته الغبية بانهزام المقاومة: «أقول للجميع هذا الموضوع كما هو ليس موضوعاً سياسياً، هو موضوع أخلاقي وإنساني يستحق التضحيات باعتبار المستهدف العماد عون، أنا أقول إنكم لن تستطيعوا عزل العماد عون، وهو ممرّ إلزامي لانتخابات الرئاسة، ونحن ملتزمون بهذا الموقف، وممراً إلزامياً لحكومة منتجة».
إذاً هي كلمة شرف تبقى أقوى من حدّ السيف ومن كلّ المواثيق المكتوبة والمعلنة. قالها سيد المقاومة وثبتها الجنرال ميشال عون قولاً وفعلاً، بالصوت والصورة، في المقابلة التي تلت خطاب السيد من على شاشة تلفزيون «المنار»، حيث كان، وهو بادي التأثر بعاطفة صدق ووفاء أيضاً، قلّ أن يملكها أمثالهما من رجالات السياسة: «ارتبطنا بكلمة شرف».
هذا هو أنموذج القادة الذي نفتقده في هذا الزمن الملوّث بالمال وحبّ السلطة، التي لم يعبأ بها حين قال ما قاله الجنرال عون عن سماحة السيد حسن نصرالله، وهو المتربع على أكبر كتلة نيابية مسيحية، جعل من خلالها أنصاره مؤمنين بالمقاومة، وبأنّ حماية لبنان من العدو الصهيوني والعصابات الإرهابية «الداعشية» لهو المسؤولية الوطنية الكبرى التي يتنكّبها حزب الله، ويدفع في سبيلها الدم الطاهر مدراراً، لهذا فمساندته ودعمه يفوقان كلّ تفكير بالرئاسة التي هي تكليف وواجب وطني مقصده إصلاح الوطن وتحريره من كلّ الأعداء والشوائب التي ما زالت تنهش خيراته وعرق شعبه. لهذا فإنّ حلف التيار الوطني الحر مع حزب الله ليس حلفاً مبنياً على المصالح الخاصة، بل هو حلف بناء الوطن وتحريره واستعادة سيادته واستقلاله، ومن الواجب التصدي لكلّ من يحاول تعطيل هذه المبادئ ومسيرتها الوطنية القيمة الهادفة إلى إنقاذ لبنان من السقوط في الهاوية.
لهذا فإنّ النصر سيجلب النصر، ولو تأخرت ساعات الحسم، ونصر 14 آب العام 2006 هو الدليل القاطع، لهذا أتى معمّماً بالفرح ومعمَّداً بالدم النقي، ومعطوفاً على الوثوق التام من الناس كلّ الناس، بأنّ الوقوف في وجه أعداء الخارج والداخل، والخوف من عدوانية «إسرائيل»، ولى إلى غير رجعة، لأنّ الشراكة في الوطن هي التي تحدّد المصير والمسار، هذا إذا كانت القلوب نظيفة والأهداف نقية والسريرة بيضاء لا لبس فيها، بمعنى لا ترتجي الأهداف الخاصة بل الوطنية المحض، التي لا ارتهان يظللها ولا ضغوط مدفوعة الثمن بالعملة الخضراء تعيق تنفيذها وحركتها.
ما أحوجنا اليوم إلى كلمة شرف تكون هي الهدف المرتجى لقيامة الوطن، فلبنان المنهك سياسياً واقتصادياً وتربوياً وصحياً وبيئياً أصبح في الدرك الأسفل، حيث مقومات الدولة وحقوق المواطنين أصبحت في أسفل السافلين والبعض مكابر ومتفرج ومرتاح، داخل أسوار قصره، ومطمئن لمستقبله ومستقبل عائلته وعشيرته مادياً ومعنوياً، فالمصارف متخمة بحساباتهم، أما جيوب الناس، وأقصد الشرفاء وليس الفاسدين، من أعلى رتبة وظيفية حتى أدناها، مهلهلة من تدني الرواتب ومن الحاجة التي لم تعد محتملة، ومن هدر الكرامات التي استبيحت على مذبح الديون المتراكمة، التي لم يعهدها اللبناني حتى العادي في حياته، بهذا الشكل المتمادي والمتواصل والمحرج الذي يشكل أزمة خانقة، قد تودي بالبقية الباقية من أشراف الوطن وأبنائهم وعائلاتهم إلى الهجرة، وطلب الجنسيات الأجنبية، وبالتالي تفريغ الوطن من قدرات وخبرات وكفاءات لا يمكن أن تقدر بثمن، ولا يجوز تجاهلها، لأنها هي مداميك البناء والتطور في الدول الهادفة إلى إعلاء شأوها في هذا العالم الغارق في العولمة والانفتاح اللامحدود.
فحين يدعو السيد حسن نصرالله إلى تفعيل الشراكة الحقيقية في الوطن عن طريق التحاور وفتح الباب للقول الصراح، الآيل إلى تفكيك كلّ العثرات والمعوقات والعزل والتشكيك، وحالات الاستكبار ومحاكمة النوايا التي لا تبني وطناً مهما غالى البعض في غلوائه، من منطلق أنّ الوطن للجميع، ومطلوب العودة إلى الدستور كي يكون الحكم بين كلّ المتخاصمين في الأهداف السياسية، إضافة إلى الاعتراف بأنّ الخصام والارتهان للخارج ليسا الحلّ المنتظر، بل قدرة السياسيين اللبنانيين على تجاوز المطبات والعراقيل، وفتح الخيارات للرؤى الخلاقة، التي يجب أن تبدع في اجترار المعجزات الآيلة إلى خلاص الوطن من أزماته المتعدّدة، وآخرها وبالاً أزمة النفايات، حيث لا بأس من «عهد شرف» يوحد الجميع من أجل خلاص لبنان والحفاظ على شعبه من الهجرة، وتركه لقمة سائغة للغرباء.