فوزي صلّوخ في جديده «اقرأ يا نائل»… حكاية قرية في تاريخ وطن
محمود شريح
يروي سيرته في قالب قصّة يرويها لحفيده٬ وهي سيرة حافلة بدءاً من مولده في القماطية حتى تقاعده من وزارة الخارجية٬ مروراً بدراسته على مارون عبوّد في الجامعة الوطنية في عاليه ونزوله إلى الجامعة الأميركية في بيروت، فالتحاقه بالسلك الدبلوماسي لخمس وثلاثين سنة. وهو في كلّ هذا إلى زمن رغد: العودة إلى الجذور واجب إنساني٬ كما فعلُ إيمانٍ بمحبة المكان الذي هو جزءٌ من الوطن. والولاء إلى المكان هو ولاء للوطن٬ الذي هو محبة ووفاء واحترام وشهادة.
والرجوع إلى القرية٬ هو الرجوع إلى الذكريات٬ إلى العادات والتقاليد٬ إلى الحياة البسيطة٬ إلى البيوت القديمة٬ إلى «العلّية» الصغيرة المتواضعة٬ مكان السكن٬ إلى «النقبة»٬ أو «العودة» إلى الأرض الخصبة الطيبة التي تعطي الخيرات٬ وتؤمّن للإنسان عيشاً رغيداً. إنها العودة لتذكّر تلك الأرواح الكريمة النبيلة٬ أرواح الأجداد والآباء الذين جدّوا وكدّوا وجاهدوا من أجل توفير حياة أفضل للأبناء والأحفاد.
وكم هي مريحة ومطمئنة لي زيارة هذه الأرواح المباركة٬ وهي في أجداث الرحمة والغفران٬ فزيارتها بعض إيمان٬ والتحدث إليها بعض وفاء٬ والصلاة لها ومن أجلها واجب. إن ثواب هذه الأنفس الطاهرة٬ بما عملت وقدّمت للأجيال الطالعة٬ وبما تحلّت به من خصال صادقة كريمة٬ وما تجمّلت به من أصالة مجيدة٬ إن ثوابها الراحة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. كما يشمل ثوابها أيضاً العرفان بجميلها من قبلنا٬ نحن الأبناء والأحفاد٬ ونعمل مثلما عملوا٬ لا بل كما قال أحدهم: فوق ما عملوا كي تطمئنّ أرواحهم أننا ما زلنا على الصراط المستقيم وللعهد وافون.
لم أبتعد عن قريتي القماطية طوال رحلتي الحياتية. فقد لازمتها حتى السنة الحادية والثلاثين من عمري٬ تاريخ ارتحالي عن الوطن لخدمته وتمثيله في الخارج مدة خمس وثلاثين سنة. وكنت كلما أعود إلى لبنان للعمل في الإدارة المركزية أصطاف وأسرتي فيها. وقد جذبني الشوق إليها أكثر وأكثر لدى تقاعدي من الخدمة. لكن هذا الشوق قد شابه ألم فراق الوالدين٬ والأسى الشديد على غياب أولئك الرجال والنساء٬ الخميرة المباركة الطيبة٬ أهل الضيعة٬ جيل الآباء٬ أهل التعبّد والإيمان.
في البدء القماطية موقعاً وتاريخاً ومجتمعاً وعائلات وأرزاقاً وسبل عيش وعلاقات بين الأهالي والمحيط وسياحة واصطيافاً. وعن مدرسته الأولى يقصّ على حفيده:
أول ما تلقيت الدروس٬ يا عزيزي نائل٬ في المدرسة القرآنية في القرية٬ ثم انتقلت إلى مدرسة «النهضة الوطنية» في بمكين التي سبقني إليها شقيقي زين٬ عمّ والدك. ومدرسة «النهضة الوطنية» كانت منظّمة وتتبع منهاجاً دراسياً مواكباً التطوّرات. كانت تعلّم اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية والحساب والتاريخ والجغرافيا٬ ودرس الدين الذي كان إجبارياً. كان يتناوب على رئاستها راهب من الدير٬ أما الأساتذة فهم مجموعة بعضها من الجوار٬ والبعض الآخر من خارجه. وأما الأساتذة الركائز الذين لم يتغيروا فَهُم: صموائيل شعيب من القماطية٬ وجوزف قشوع من عين السيدة ووديع حجار من سوق الغرب.
سمعتُ والدتي تقول لرئيس المدرسة٬ الأب غريغوار٬ بعد تسجيلي «اللحم لكم والعظم لنا»، فخفت أن يسلخ أبونا الريّس لحمي عن عظمي، والمعروف عنه القساوة والشدة. ولكنني فهمت٬ في ما بعد، أنها تريد منه الانتباه إليّ كما كان مراد كلّ أمّ ترغب بتعليم أبنائها. وقد سمع الرئيس هذا المصطلح «اللحم لكم والعظم لنا» من آباء وأمهات كثيرين.
قضيت مدّة أربع سنوات في مدرسة «النهضة الوطنية» في بمكّين. كانت أياماً حلوة. كان الطلاب من مختلف قرى الجوار. كنّا أولاد القماطية نلتقي في مشارف قرية بمكّين صباحاً ونسير كالقطيع٬ بعض الأحيان يرافقنا الأستاذ صموائيل٬ الذي كان كثيراً ما يتفقدنا٬ ويصرّ على الحديث معنا باللغة الفرنسية كي يرغّبنا بها.
فإلى الجامعة الوطنية في عاليه في 1943 لسبع سنوات٬ ثم كان الطالب الثالث من القماطية يلتحق بالجامعة الأميركية في 1950 وتخرّج فيها بدرجة بكالوريوس في الآداب والعلوم٬ اختصاص علوم سياسية.
إلى المؤسسات القروية في القماطية والمنظّمات والأحزاب السياسية فيها٬ وهنا يفاجئ حفيده نائل: وإذا ما سألت٬ يا نائل٬ جدّك إلى أيّ حزب ينتمي٬ فالجواب أنني أنتمي إلى حزب الإنسانية المعذّبة المقهورة التي تحتاج إلى خدمة ورعاية واهتمام٬ التي تحتاج إلى من يدافع عنها٬ عن حقوقها٬ عن تحمّلها المآسي والأحزان. هذه الأكثرية من الإنسانية البائسة الفقيرة المأزومة٬ هذه الإنسانية التي جعلها القادة المتسلّطون نيران حروبهم من أجل الحفاظ على مكاسب جورهم٬ ومغانم ظلمهم وجشعهم وقساوة سيطرتهم الفجّة.
وأنا أنتمي سياسياً٬ يا نائل٬ إلى حزب لبنان٬ كلّ لبنان٬ إلى عالمي الحرّ المستقلّ٬ أنتمي إلى قوميتي العربية٬ إلى محيطي٬ إلى عالمي الغنيّ بالتراث والأصالة والقيم الروحية٬ محيطي الثريّ بالإيمان الإبراهيمي الذي شرذمته البدع وقسّمته الأجواء والأغراض. وما أحوجنا اليوم إلى إعادة إصلاحه وترميمه واستقامته.
أنتمي إلى حزب الإنسان الذي تتساوى فيه الإنسانية بالتنعّم بحقوق الحرّية والعدالة وفرص العمل وبحياة حافلة بالأمان والمحبة والسلام٬ والتقدم والنموّ والازدهار في هذه الدنيا الفانية.
ثم يسهب صاحب السيرة في رسم صورة واضحة لموقع القماطية على خريطة الأحداث الداخلية والخارجية منذ الاستعمار الفرنسي حتى ثورة 1958 مروراً بنكبة فلسطين، ويفصّل وقعها على أهل القماطية على مختلف مشاربهم٬ ووصولاً إلى عهد فؤاد شهاب وبناء الدولة الحديثة.
يتوسّع فوزي صلّوخ في سرد وقائع انقلاب 1961/1962 الذي حاوله القوميّون على نظام شهاب٬ ذلك أن بعض القماطيين كانوا منتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي.
إلى الحرب الأهلية أو «الإثم اللبناني»، وصولاً إلى «الربيع العربي» بنَفَسٍ تأريخيّ نزيه٬ من دون أن يغيب عن صاحب السيرة دفاعه العنيد عن قضايا العرب أجمعين وعلى رأسهم فلسطين.
لقد انتصر الدم الغزّي الفلسطيني على الطائرات الحربية «الإسرائيلية» العاتية. وانتصر النفق الرمليّ على الدبابات والمصفحات الغازية. نحتفي بهذا النصر٬ ويتملّكنا السرور٬ لكننا نحزن للموقف العربي المحزن٬ وللموقف الإسلامي المخجل. لم يجتمع القادة العرب٬ ولا القادة المسلمون لمناقشة الوضع واتخاذ قرار. لم تقم تظاهرات في عدد من العواصم العربية تنديداً بالعدوان «الإسرائيلي» الغاشم٬ كما قامت في بلدان كثيرة من العالم المتحرر. لقد أفقد هذا الصمت العربي دور الدول العربية القادرة. وقد تُرجم هذا الصمت بأنه تأييد للعدوان «الإسرائيلي» نكاية بحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي٬ كونهما ردّا على العدوان بردّ جهاديّ أقوى منه وأفعل. وإن التاريخ يُعيد نفسه٬ هذا ما حدث٬ تقريباً٬ في عام 2006. لقد تذمّر القادة العرب وهاجموا حزب الله كونه أوقعهم في موقف حرج٬ وكونه هو المعتدي٬ لا «إسرائيل».
لبنان واللبنانيون٬ فقط٬ تحسّسوا ما كان قائماً في قطاع غزّة٬ وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة٬ تماماً كما شعر الفلسطينيون الأشاوش بآلام اللبنانيين في عامَي 1982 و2006، فأقاموا التظاهرت الصاخبة مظهرين سخطهم وتنديدهم بالعدوان «الإسرائيلي» الغاشم٬ والموقفين العربي والدولي المخجلين المخزيين.
وهكذا٬ فالمصيبة تجمع٬ والإيمان يجمع٬ والجهاد في سبيل الله والوطن يجمع. فلا غرو أن يتبادل الشعبان اللبناني والفلسطيني التظاهرات والاحتجاجات لأنهما يتحملان مظالم القضية الواحدة٬ القضية الفلسطينية. لقد أضحينا بحاجة إلى رؤية عربية جديدة أكثر نباهة ورشداً٬ كي نتمكن٬ نحن العرب٬ من التمييز النقي الواضح٬ بين الشقيق وبين العدو٬ بين التشرذم وبين الوحدة٬ من أجل خلق مستقبل يعيد إلى الأمة مجدها وأصالتها.
السفير الوزير صلّوخ في رسالته إلى حفيده نائل يروي سيرته متعانقة مع أحداث لبنان٬ وجيرانه٬ وعلى رأسها فلسطين٬ في أسلوب طلي وغور ثقافة وسِعة اطّلاع.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كتاب «اقرأ يا نائل»، صدر حديثاً عن «دار المنهل» ـ لبنان.