مؤتمر الطاقة الاغترابية… سجالات ودموع ووعود!
علي بدر الدين
لعلّ قراءة متأنية وغير انفعالية لوقائع ونتائج مؤتمر الطاقة الاغترابية الذي نظمته وزارة الخارجية والمغتربين في 30 و31 أيار الماضي في بيروت أمر مفيد. ومن غير المجدي التصويب على المؤتمر الذي عقد في زمانه ومكانه الصحيحين، فبعيداً عن خلفيات انعقاده ونجاحاته وإخفاقاته، المستقبل كفيل بكشف المستور وفضح الخبايا، إذا وجدت وأياً تكن، لأن الاغتراب اللبناني وطاقاته الضخمة ليست مسرحاً لممارسة الهوايات أو حقل تجارب أو منصّة لتوجيه الرسائل وتسجيل المواقف وتحقيق الأهداف السياسية والطائفية على حساب مصلحة الوطن والمواطنين في أيّ بقعة كانوا من هذا العالم.
تقتضي الموضوعية التروي والتاني والحكمة قبل إصدار الأحكام على مؤتمر اغترابي أراده وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل لاعتبارات وطنية في المقام الأول، فمثلما يدرك اللبنانيون حجم الثروة الاغترابية الوطنية والطاقات والإمكانات التي تختزنها وحاجة الوطن إليها وهو الفرق في أزمات سياسية واقتصادية تفوق القدرة على التحمل والنجاة من أثقالها وأعبائها وتداعياتها. والضرورة الوطنية والاغترابية تفرض إعطاء هذا المؤتمر حقه وحجمه الفعلي من دون تكبير الحجر، وإلهاء المغتربين بسجالات بلا قيمة لها وبلا معنى، على الأقل في انتظار ترجمة المقررات والتوصيات التي تحتاج إلى بعض الوقت.
إن إصلاح ما أفسده دهر المعالجات والسياسات الخاطئة للملف الاغترابي ليس أمراً يسيراً أو في متناول اليد لارتباطه بخلفيات سياسية وطائفية بالغة التعقيد، وبات اللجوء إليها يشكل مخرجاً أو هرباً من الفشل في الإدارة والأداء وقطف الثمار المتوخاة. وهذا ما ساهم في سقوط جميع المحاولات التي قام بها وزراء الخارجية في حكومات متعاقبة. ولم ينجحوا سوى في تشكيل اللجان مقبرة القرارات ينتهي دورها ووجودها بعد الاصطدام بأول «بلوك» اغترابي سياسي طائفي أو عندما تتغيّر الحكومات، لأن معظمها افتقر إلى الرؤية الصحيحة للموضوع الاغترابي الشائك، وبالتالي افتقادها الصلاحيات التي تخوّلها تسويق مشروعها الإنقاذي إذا وجد.
هذا العجز المتمادي للدولة في إدارة شؤون المغتربين وسياسة الإهمال وغض الطرف عما يحصل في الساحة الاغترابية، خلط الحابل بالنابل وتحوّل المغتربون إلى كتل وتجمعات وأندية طائفية ومناطقية، معتمدة على مرجعياتها وعلى خطابها اللاوطني لتحقيق مشاريع سياسية وحزبية وفئوية أدت إلى تعميق الإنشقاق والتباعد والتنافر.
لم تفلح الوساطات في إنتاج تسوية تحول دون مواصلة سياسة الانحدار، بل على العكس تفاخر البعض من أصحاب المشاريع السياسية التقسيمية بتشكيلاته الاغترابية الطائفية وباستنساخ الجامعة الثقافية اسماً وشكلاً ومضموناً، وما حفزه على الاستمرار في سياسته المغلوطة احتضان بعض المسؤولين في الدولة له أو تركه يغرّد خارج السرب الوطني ليفعل ما يشاء من دون حسيب أو رقيب أو مساءلة، سالباً من الجامعة الشرعية شرعيتها ومتجاوزاً بأفعاله جميع الأنظمة والقوانين التي تضبط إيقاع المؤسسة الاغترابية المعترف بها رسمياً والتي تنص أنظمتها وقوانينها على أنها غير طائفية وغير عنصرية وغير سياسية.
في ضوء هذه الوقائع المرّة والمؤلمة، كان لا بد من التفاؤل بالمبادرة التي أطلقها الوزير باسيل علّها تنقذ المغتربين من المتسلقين الجدد والوصوليين الذين ينتحلون الصفات ويعقدون المؤتمرات الوهمية خارج حدود الوطن ويصدرون البيانات التي كثيراً ما أساءت إلى مصلحة لبنان وأبنائه. وربما أراد أيضاً من خلال هذا المؤتمر سحب البساط من تحت أقدام هؤلاء الذين أوغلوا في تقسيم المغتربين وشرذمتهم وتعطيل اندفاعهم وحماستهم لخدمة لبنان. وقد يكون الوزير وقع في أخطاء يمكن الوقوف عند بعضها ويمكن تجاوز شكليات البعض الآخر منها، وهو اعترف علانية أمام المؤتمرين ببعض الخلل غير المقصود برأيه. وهذا ناتج من الاستعجال بالتحضيرات والاستعدادات التي سبقت انعقاد المؤتمر وقد غفر له البعض، في حين رأى آخرون أنّه ذو خلفيات ومصالح سياسية وانتخابية ودعائية دفعته إلى تجاهل فئات كبيرة من المغتربين الفاعلين. ومن الأخطاء المتداولة والتي لوحظت قبل انعقاد المؤتمر وخلاله أنه اعتمد سياسة التفرد في اتخاذ القرارات والإجراءات من دون استشارة مؤسسات وإدارات رسمية وخاصة لها تاريخها في تنظيم المؤتمرات وتحقيق النجاحات والإنجازات، وأنه تجاهل تماماً أن هناك مؤسسة اغترابية اسمها الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم عقدت نحو خمسة عشر مؤتمراً في لبنان وخارجه ولها تاريخها ودورها ووظيفتها.
اللافت أن الجامعة كانت ولا تزال غائبة عن السمع ولم تعلق على عدم التعاون والتنسيق معها، كأنها غير معنية بما حصل، مع أنها قد تكون مستهدفة ولم تصدر أي بيان رافض أو مؤيد للمؤتمر ونتائجه. وعلى العكس، كان من يمثلها موجوداً في قاعة المؤتمر بصفة مراقب! كأنها موافقة ضمناً على ما يحصل. ولم يكن في وسعها وضع نقاط استبعادها على حروف المؤتمر نجاحاً أو فشلاً. وربما تتوضح الصورة في الآتي من الأيام في ضوء المناقشات الجارية لاتخاذ الموقف المناسب في الزمان المناسب. أو يكون الرد بمزيد من التماسك بين مكوّناتها وتلاوينها وبتحقيق روزنامة عملها الراهنة والمستقبلية.
إن مؤتمر الطاقة الاغترابية لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقته مؤتمرات نظمتها أيضاً وزارة الخارجية ومديرية المغتربين ومنها على سبيل المثال لا الحصر، اللقاء الإعلامي الاغترابي في شباط 1989، والمؤتمر الأول للجمعيات والأندية الاغترابية في آذار من العام نفسه. تلاه مؤتمر ثان في نيسان 1999، ثم مؤتمر حاشد لرجال الأعمال المغتربين في حزيران 2000، فضلاً عن العديد من المؤتمرات الاغترابية للجامعة الثقافية عقدت في بيروت برعاية وزارة الخارجية والمغتربين، وعقد آخرها في العام الماضي وانتخب فيه أحمد ناصر رئيساً لها.
المستهجن في الأمر أن مغترباً عتيقاً ورجل أعمال ناجحاً ويتمتع بحيثية وطنية واغترابية، وقع في فخ الانشقاق عن الجامعة الشرعية واستولد جامعة لحسابه وترأسها، ويقدم نفسه على أنه رئيسها في أكثر من مناسبة ومكان، شارك في المؤتمر بصفة غير التي يدّعيها وجرى التعريف عنه بأنه عميد الجالية اللبنانية في مكان عمله في المغتربات العربية، وقيل إنه دفع مبلغاً كبيراً من المال لتغطية نفقات المؤتمر تذاكر سفر وإقامة وسوى ذلك لمغتربين وفدوا من أميركا للمشاركة في المؤتمر. وهذه من مؤشرات ضياع المغتربين وهشاشة المسؤولية المشكوك في صحتها أساساً، وصورة عن حال الانقسام السائدة والفصام في اتخاذ المواقف وجرّ الجامعة الثقافية ومغتربين معها إلى المجهول فكيف يمكن لتماذج اغترابية مماثلة أن تنهض بالاغتراب أو تساهم في توحيد مؤسسته أو تفعّل الطاقات الاغترابية.
لذا نعتقد أنه من حق الوزير باسيل ومسؤولياته عقد هذا المؤتمر لتوجيه بوصلة الاغتراب في الاتجاه الصحيح وتصويب الأداء وتفعيل الإمكانات وتوظيفها لخدمة لبنان واقتصاده وأبنائه المقيمين والمغتربين وفي اعتقادي أيضاً أن وزير الخارجية في ضوء اعترافه ببعض الخلل والأخطاء التي حصلت، يعرف كيف يفيد منها لتجنبها في مؤتمرات لاحقة وعد بانعقادها هذا الصيف وفي شباط المقبل، إذ يعقد مؤتمر الطاقة الاغترابية 2، متوقعاً مشاركة نحو خمسة آلاف مدعو من الطاقات الاغترابية المتنوعة، وبينها بالطبع المبدعون في مجالات العلم والفكر والثقافة والتربية والتعليم.
على الوزير باسيل المرتاح للمؤتمر أن يخرج من دائرة المستشارين الذين يدعون معرفة كل شيء، فقد يكون لهم رأي وتصور في مسألة معينة قد يؤخذ بها، وقد ينطبق عليهم قول الشاعر:
قل لمن يدّعي بالعلم فلسفة
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
إذا أراد الوزير تفادي الأخطاء والهفوات، لا بد من توسيع مروحة الاستشارات والتعاون مع إدارات اغترابية رسمية ومؤسسات مثل الجامعة الثقافي، ومع رموز الاغتراب اللبناني وهم كثر، والأهم من ذلك تنقية الاغتراب من الفضوليين وراكبي الموجات ونافخي فقاقيع الصابون، فبأمثالهم لا يمكن إنقاذ المركب الاغترابي مهما تكن مهارة القبطان وحسن قيادته، كما يمكن البناء على دموع الحنين والشوق إلى الوطن الذي ذرفتها عيون بعض المتحدرين والمنتشرين في المؤتمرين التي يجب احترامها وتقديرها ليس بالكلام والمؤتمرات بل بالفعل والممارسة.