الموت ذلاً، الرجل الذي صار عظماً بلا لحم
نارام سرجون
ما أمرّ كأس الذلّ في فم العزيز الكريم، انه كطعم البحر الأجاج في فم النهر العذب، وكطعم النار في فم الثلج، فيا ويل من كانت نفسه عزيزة أبية عذبة تفيض بالكبرياء والعنفوان ويشرب نقيع الذلّ في كأس الحياة، ولكن ماذا يحسّ الذليل الذي يتجرّع كأس الذلّ وراء كأس الذلّ، واعتادت عروقه مرور الذلّ بدل الدم، واعتاد أن يتنشق الذلّ ويتنفس الذلّ، ويتعرّق الذلّ، وصارت زمرة دمه من فصيلة الذلّ؟
لن يوجد سياسي في العالم تجرّع الذلّ الذي يتجرّعه أردوغان هذه الأيام، رغم كراهيتي لهذا الرجل واحتقاري له ولأخلاقه الوضيعة ونذالته فإنني أحياناً أحسّ بأنه هذه الأيام يثير فيّ الشفقة والشعور بالعطف عليه وهو يتجرّع الذلّ في الكؤوس الكبيرة بعد أن شرب النصر في أنخاب كبيرة، كؤوس الذلّ لا تحصى حتى صارت الإحاطة بها أمراً متعذراً، كأس وراء كأس، وخيبة إثر خيبة، حتى صار بطنه مليئاً بالذلّ والخيبات، ورأسه متشققاً من الصدمات وعقله منقوعاً بالإحباط، صار أردوغان كتلة كبيرة من الذلّ، ورجلاً مكسوراً بالهوان والمهانات، حتى صار الذلّ يشفق عليه ويطلب الرحمة له،
ليس إذلال أردوغان فقط في انهيار كلّ عالمه الإخواني بسرعة قياسية حتى لم يبق للأخوان المسلمين من تونس الى تركيا سوى بضعة مقاعد في البرلمان التركي وفي تنظيم «داعش» وفي مكتب خالد مشعل، بل خرج من تونس مذموماً مدحوراً، وطرد من مصر شرّ طرد، ولم يقدر أن يدخل عتبة دمشق رغم أنه حاول هدم كلّ الجدران الشمالية ودق برأسه الحيطان والصخر وقلعة حلب حتى تصدّع رأسه وانفلق، العالم والحلم الذي بناه أردوغان بالتسلل واللصوصية والتمثيل والكذب على العرب تبخر واحترق ورحلت العثمانية، تجرّع أردوغان ذلّ انكسار الوعود والتهديدات، وتجرّع ذلّ لا مبالاة الأسد بصراخه وعنترياته وانفجار صبره، وتجرّع ذلّ خروجه من المشروع العثماني بخفي حنين، وتجرّع السمّ بانهيار فلسفة تركيا ذات الإسلام النظيف فاذا بها تركيا الفاسدة الزنخة التي تسرق وتمارس قطع الطرق وتسبي النساء وتذبح بيد «داعش»، تركيا الطائفية، ومن تركيا تفوح رائحة ثياب أمينة اردوغان وثياب ابنها بلال وابنتها سمية بالمليارات والمال الحرام، وها هو أردوغان يتجرّع السمّ في انهيار كذبته الكبيرة على الأكراد الذين اكتشفوا أنه كان يمارس هوايته المفضلة في الوعود الكاذبة، وتجرّع الذلّ وهو يرى اشتعال أطراف ثوبه العثماني ببعض النار، ويكتشف أنه صار محاطاً بالمشاكل والثقوب الأمنية والمذهبية التي ملأت عهده.
لكن الإذلال الأكبر هو في أنه أعلن عشرات المرات بأنه يريد منطقة آمنة، تسوّلها من الناتو، وقبّل الأيدي والأرجل، وسافر عشرات المرات الى الغرب وطلب الإذن بعد الإذن، ولكنه تلقى صدّاً وتوبيخاً لأنه لا يحسن تقدير العواقب من جرّ الناتو الى مواجهة لا يريدها، الا أنّ استماتته على المنطقة الآمنة بلغت حداً أنه أراد فرضها كالأمر الواقع بعملية مليئة بالرعونة والتهوّر، فأعلن أنه عقد صفقة مع الأميركيين سمح بمقتضاها بأن يقايض النشاط الأميريكي في قاعدة «أنجرليك» بمنحه المنطقة الآمنة التي يحلم بها في الشمال السوري، وهي بتعبير آخر منطقة حظر جوي طالما طالب بها لأنّ الطيران السوري سيصبح في منطقة يظللها الناتو…
وفيما هو يحتفل بالنصر ويريد أن يضع فراشه في المنطقة الآمنة ويدعو المعارضة السورية الى إقامة اليالي الملاح في المنطقة الآمنة، وإذ بالأميركيين يوقفون الأغنيات الراقصة ويعلنون عن إلغاء الحفل، وإذ بالناتو وإمعاناً في التأكيد على عدم نيته حضور الحفل يعلن فجأة أنه سيبدأ بسحب بطاريات الباتريوت الألمانية من الحدود السورية، وزاد من جرعة الإحراج أنّ الروس اعلنوا عمداً أنهم أرسلوا سرباً من أحدث مقاتلاتهم الى الجيش السوري من طراز ميغ 31 لتنضمّ الى اسطول ميغ 29 وميغ 27 المتواجد أصلاً في سورية، وهذا التوازي في الإعلان عن هاتين الخطوتين رسالة تشبه الفضيحة للرجل، فهو وعد الجمهور ووعد المعارضة أنه سيبني المنطقة العازلة وسمّاها احتيالاً وتذاكياً بالمنطقة الآمنة التركمانية التي لن يدخلها لكنها ستصبح محرّمة على الجيش السوري أيضاً بغطاء ناتوي، إلا أنّ جدار صواريخ الباتريوت الذي سيدافع عن هذه المنطقة غادر أو يغادر الآن، فكيف سيبني المعتوه ايّ منطقة آمنة من غير صواريخه، ومن غير الناتو؟ وبوجود قوافل الطائرات الروسية التي وصلت أولى دفعاتها وستصل بقية الطائرات تباعاً في مهمة تكاد تقول إنها لتدمير المنطقة الآمنة تحديداً.
وما زاد طين الذلّ بلة هو الإعلان الروسي في هذا التوقيت – الذي تحزم فيه الباتريوت حقائبها وتشتري تذاكر السفر للعودة – عن وصول طائرات ميغ 31 الى سورية، وهذا ما سيجعل المنطقة في الشمال السوري منطقة آمنة لسورية لأنّ معنى الرسالة أنّ الجدار التركي ينهار والجدار السوري الدفاعي السوري يتمتّن ويعلو في صمت قاتل من الناتو.
الرجل الذليل أردوغان يشبه العريس الذي وجّه الدعوات لحفل عرسه ولبس ثياب العرس الأنيقة وذهب الى العرس فلم يجد أياً من المدعوّين في الصالة، والفاجعة الكارثة الفضيحة انه حتى العروس لم تأت واعتذرت وذهبت مع رجل آخر، وجلس العريس وبجانبه كرسي فارغ وورود المهنئين بالرفاه والبنين، ولكن القاعة مليئة بكراس فارغة، وحوله فقط داود اوغلو في كرسي العروس وحولهما بضعة مجانين من العائلة الإخوانية يدقون على الدف ويرقصون وحولهم الصدى والمدى.
حزب العدالة والتنمية كما صار معروفاً جاء بتسهيلات أميركية وليس من قبيل الصدفة ان يصل هذا الحزب المشبوه الى السلطة قبل عام على غزو العراق أيّ عام 2003، وكأنه وصل في موعد مع الغزو الأميركي، لأنّ المشروع الأميركي كان يهدف الى تدمير أنظمة الحكم القومية وتحطيم وجود الدولة الوطنية وإحلال أنظمة حكم دينية في كلّ المنطقة لإطلاق المرحلة الثانية من مشروع «الفوضى الخلاقة»، حيث تستقطب المنطقة دينياً ومذهبياً، ويكون وجود تركيا الاسلامية كملاذ إجباري للإسلام السني المهزوم والمجروح من هزيمة عراق صدام حسين الى لبنان رفيء الحريري، أردوغان جاء الى الحكم في نفس عام الغزو للعراق للمساعدة في هذه المهمة لكن أهمّ مهمة أسندت اليه كانت المساعدة على استقطاب أهل السنة وإتمام المشروع بإسقاط سورية وتفتيت جيشها وتكوين كيانات مقطعة تتقاسمها المذاهب التي تتقاسمها الدول ايضاً، والواضح انّ المهمة فشلت فشلاً ذريعاً لأنّ منظومة الردع التي شكلتها روسيا وإيران وسورية وحزب الله حالت بين أردوغان وبين المهمة المستحيلة التي تنطح لها، وهذا يعني أنّ على الناتو ان يساعده على الرحيل بهدوء لأنّ هناك خشية من لا استقرار تركيا الملاصقة للبوابة الأوروبية والعضو المهمّ في الناتو، والتي بدأت بالاهتزاز العرقي والمذهبي.
الناتو غالباً صار بحاجة الى فريق سياسي جديد في تركيا للحفاظ على تركيا، وكثير من التقديرات تتوقع أن ينتهي مفعول حزب العدالة والتنمية أو على الأقلّ زمن رجب اردوغان مع نهاية عهد باراك أوباما الذي عصر تركيا الاسلامية حتى آخر قطرة، فقد نفذ الأتراك مشروع «الربيع العربي» بدقة وتفان، وتدخلوا بإخوانيتهم في تونس وليبيا ومصر وسورية والعراق وحتى في اليمن، ولكن انهارت الامبراطورية الإخوانية، وانتهى عهد أوباما، وصار لزاماً أن يأتي البديل، فالسياسة الأميركية تبدّل الاستراتيجيات والأدوات مع كل رئيس جديد، وكلّ إدارة تأتي بمشاريعها الجديدة وأبطالها الجدد، او تصمّم أدواراً جديدة لأبطال قدماء، وحزب العدالة والتنمية بطل قديم لا يصلح للإدارة الجديدة، فقد ساعد بوش بامتصاصه للغضب الإسلامي وهو يقدّم نفسه البديل الالهي المنتظر، وساعد أوباما ولكنه لم يعد قادراً على مساعدة الرئيس القادم، انه عظمة لم يبق عليها لحم، وهناك عظم تركي مكتنز بالشحم واللحم، بانتظار من يقطف اللحم عن العظم.
ولكن صدقوني مهما اعتاد الذليل مذاق الذلّ فإنّ طعم الذلّ كريه عليه إذا شرب مرة واحدة من كؤوس العز الدمشقية، طعم العنفوان والكبرياء الدمشقي لا ينساه الأذلاء عندما يتذوّقونه مرة واحدة، أولئك الذين لو شربوا كلّ كؤوس وانخاب النصر والعز في الدنيا لما عوّضتهم ولما أوصلتهم الى النشوة، من تذوّق العز في كؤوسنا سيعلم الفرق بين الضحالة وبين الكبرياء، ونحن من سقينا أردوغان العز في كؤوسنا فملأها لنا دماً وقيحاً ومجرمين وقنابل ورصاص وانتحاريين وأشلاء وتكفيراً ومذاهب ومذابح، فصرنا نقاتل أربعين دولة، وأربعين جيشاً وأربعين سلاح جو، وأربعين منظمة للجريمة، وأربعين مؤامرة، وحرباً من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب، ولا يوجد شبر في جسدنا ليس فيه طعنة وندبة وجرح قديم وجرح شديد، ومع هذا لم نستسلم ولم نسلم ولم نسقط، بل صنعنا معجزة القرن، لأننا أحرار ولسنا عبيداً ولم يؤت بنا لأداء وظيفة موقتة أو لغزو، فنحن من جاء بهم القدر ليعدوا أنقى كأس للعز يصنع في دمشق اليوم، من يشربه لا يسري في عروقه الا الكبرياء الأبدي.
الكثير من كؤوس الذلّ تنتظر أردوغان يا سادة في الأشهر المقبلة، الأقدار سكبت بعضها، والسوريون سكبوا له بعضها، وجنونه سكب له بعضها، وهو يتأمّلها حائراً وكلّ من يتابع خياراته وورطاته يعرف ما هو قادم في كؤوسه، فمن أين يبدأ أردوغان تجرّع لإذلال؟ وأي كأس يتركه كآخر كأس؟ وما بينهما كيف يكون حاله؟ كلها علقم وملح وقيح وصديد وغسلين، لا يهمّ مذاقها لأنّ الرجل لم يتعوّد شرب الكرامة والشهامة الا في كؤوس الدماشقة والسوريين الذين سكبوا له الماء العذب، وعلموه معنى العزّ وكانت أعزّ أيامه يوم شرب كأسه في أنخاب دمشق ممزوجة بنكهة الشرق العظيم.
فاشرب يا أردوغان اليوم، اشرب الذلّ في كؤوس الهوان، انه الموت ذلاً، انه الموت ذلاً…