همزة وصل
نظام مارديني
منذ ولدت مدينة القامشلي من ماء «تموزي» وهواء ربيع «أنليل»، كان الحمام يطير من بين يدي أطفالها الذين لا نعرف مذاهبهم وأعراقهم… كانت أعيادها موحدة: أجراس كنائسها واحدة وصوت الله من مآذنها واحدُ أحد.
كانت كمن تسري بدفء شوارعها ندى وهتافات لمجانين يحبون الحياة ويرسمون مراياهم على حيطان بيوتها الترابية.
اتذكر حين ولدتُ وأطلقتُ صرختي الأولى كيف كنت أرتجف وأنا انظر الى آلهة الخصب عشتار، القابلة التي احتضنتني، وهي تدس نور أصابعها في جسدي وتربت عليّ وهي تدندن يا «تموزي» يا «تموزي». كنت أريد أن أتكلم، لكن، تذكرت أني ما زلت «كومبيوتر» بلا ذاكرة ولا لغة إلا لغة الروح.
نهرٌ «جغجغ» بفرعيه الذي كان يمر بالقرب من شرفات المدينة، كان يفتح راحيته ليضمنا كيفما شاء. كنا نسير مع النهر سباحة من الحدود التركية ونزولاً إلى «الجب الفرنسي»، مساحة ليست بالقصيرة كي نصل بقعة معينة ومحددة، هناك كان ينتظرنا أصدقاء وهم يحرسون ثيابنا كي لا تسرق ونضطر للعودة إلى المنزل عراةً.
وانا أنظر إلى أجساد الشهداء الطاهرة أمس، والتي امتزجت دماؤهم بتراب هذه المدينة، كنت أتعرف إليهم من خلال جسدي، واحداً واحداً، وأخرج الى الحياة فسيحاً ملفوفاً بحبهم وبياض روحهم، هذا البياض الذي أرميه على جسدي ببرودة لأتدفأ، وحين اشتاق للربيع بعد مطر بلل جسدي، تتسلل شقائق النعمان فيصرخ ضوؤها: لا تحزن، ابتعد قليلاً كي أرى ربيع وجوههم كلّها وهو يقبلُ صباحي بدمعةٍ…
هو دم واحد يراق بسكين واحدة يشحذها أحدهم وهو يركب موجة الاحتقار لنفسه لسبب نجهله… هذا الدم الطاهر يجب أن يشجع بعضهم من الذين يعيشون هلوسة «الثورة» وهذيانها لتصحيح مسار النصل المغمس بالأوردة المقطوعة لربما ينجلي هذا الحزن ويعود من غادرنا في آخر محطة بلا بصمات، وإلى تأكيد أننا ما زلنا نعشق البقاء واقفين بانتظار أن يحين ظهور أسمائنا للذهاب الى الشهادة…
لم تعد هناك أماكن نحتمي بها إلا وحدتنا، فالصخرة التي تواجه نهر «جغجغ» لن ترحم تأوهات إخوتنا وأولادنا الذين قتلوا غدراً لا لشيء سوى أنهم عشقوا تراب بلادهم.
غداً سيتكاثر حبر المطابع على أحرف الرثاء، بينما يبقى أبناء شهدائنا بلا غطاء يحميهم، وهذا عشق لن يثمر سوى حماسة مؤذية لنسيجنا الاجتماعي الذي تمنيناه متيناً لا يتأثر.
أقول… الشهادة تشتهيني يا أحبتي وانتم جميعكم شهادتي العليا.